ليبيا .. بين المخاوف والأماني
خمسون يوماً ثقيلة مرت على الوضع الحادث في الشقيقة ليبيا، وقد شملتها موجة المظاهرات الشعبية المطالبة بالتغيير، بعد أن نجحت في إزاحة رئيسين من كرسيهما في تونس غرباً ومصر شرقاً. يبدو أن بين الشرق والغرب مسافة لا يمكن الوصل بين طرفيها إلا بالدم.
لا أريد أن أتعالم على إخواني الليبيين فأكتب عنهم بما هم أعلم فيه وأدرى بشعابه، ولولا الشعور بالأخوة الإيمانية ونسغ الدماء المتصلة لما كتبت في موضوع مداخلاته كثيرة ومتشعبة ومعقدة، والفتن – كما قيل – إذا أقبلت شبّهت، ولاكتفيت بما كتبته قبل أسبوعين في آخر مقال عن الذكرى الثامنة للحرب على العراق، مشيراً إلى توحد توقيت الهجوم الغربي على البلدين الشقيقين.
الوضع في ليبيا أخذ منحيين خطيرين، اختلف بهما عن الوضع في تونس ومصر، بل حتى عن اليمن: المنحى الأول: أن وسيلة التغيير خرجت عن مسار التظاهر السلمي إلى المسار العسكري والتقاتل بين الأشقاء. والمنحى الثاني: التدخل العسكري الأجنبي ممثلاً بالحظر الجوي على سلاح الطيران الليبي، ثم الهجمات الجوية لحلف الناتو على ليبيا. وكلا المنحيين محفوف بالمخاطر الكبيرة، ولا يمكن ببساطة التكهن بنتائجه على المدى القريب والبعيد.
التقاتل بين الأشقاء
ليس هناك من لا يتمنى أو لا يريد التغيير نحو الأحسن، ودفع الشر الواقع بالتي هي أحسن، أو بما هو أخف شراً إن تعذر تحصيل الخير المحض.
لكن عندما لا يكون التغيير إلا بـ(الفتنة) بين أبناء البلد الواحد.. هنا تثور أسئلة كبيرة تحتاج إلى توقف، وجواب من ذوي العلم والحكمة الذين يجمعون بين علمين عظيمين: علم الفقه بالشريعة، وعلم الفقه بالواقع، ولديهم المَكِنة لتنزيل أحكام الشرع على الواقع.
والسؤال الأهم من بين كل الأسئلة: هل يجوز الخروج بالسلاح على الحاكم الذي لا يحكم بشرع الله إن لم نجد غير ذلك من وسيلة لتغييره؟
وهذا يقود إلى أسئلة أخرى كي نجيب عنه يأتي على رأسها: هل الشر الحاصل بالاقتتال أكبر أم أصغر من الشر الواقع بوجود هذا الحاكم؟
أما نحن أهل العراق فتجاربنا القديمة والجديدة تقول: ما كان التغيير في يوم من الأيام إلا إلى ما هو أسوأ. وما حدث لنا بإزاحة صدام حسين أسوأ وأحسن وأقرب مثال على ما أقول!
الملاحظ على عموم الجماهير أنها تفكر في التخلص من الحكم القائم أكثر مما تفكر في البديل القادم، وكأن لسان حالها يقول: المهم أن ينزاح عنا هذا الوجه المكروه المكرور ولو كان البديل هو الشيطان الرجيم أو إبليس اللعين!
لكن لا بد هنا من السؤال: ما الموقف إذا كان البديل – كما حصل في العراق – أسوأ من الأصيل؟ أيستحق ذلك إراقة دم امرئ واحد، فضلاً عن حرب أهلية تسفك فيها دماء الآلاف والآلاف من الأشقاء، وتهدم فيها البيوت وتنتهك الحرمات وتعطل المصالح؟
ثم ما الضامن أن لا تسرق الجهود بعد كل تلك التضحيات؟ وقديماً قيل، بعد شيء من التحوير للضرورة الأدبية: “الثورات يخطط لها الأذكياء، ويدفع ثمنها الأبرياء، ويحصد ثمارها الجبناء”. وفي تونس ذات التغيير السلمي عادت الجماهير أخيراً إلى الشارع للتظاهر، ولكن هذه المرة منددة بمن يخشون منهم أن يسرقوا ثورتهم. وفي مصر بدأنا نسمع عن شيء مشابه. لا أقول هذا مشطباً على ثورة الشعبين بقدر ما أسوق شاهداً على التساؤل المطروح، على أن هناك فارقاً كبيراً بين وسيلة التغيير المنشود في ليبيا، والوسيلة التي تم بها ذلك في البلدين الآخرين. إذ لا غبار ولا اعتراض على أي تحول أو تغيير بأي وسيلة سلمية أو شبهها تُتّبع للإطاحة بنظام والإتيان بما هو خير منه. حتى لو كان هو الانقلاب العسكري بشرط ضمان ضبط الأمور من الانزلاق إلى القتال وإزهاق الأنفس وإتلاف الممتلكات والأموال الخاصة والعامة.
ما يحصل في ليبيا شيء آخر تماماً: فمحاولة خلع الحاكم جرّت إلى اقتتال داخلي. وحتى لو أسفرت المحاولة عن الهدف المقصود، فربما لا يكون الوضع اللاحق خيراً من السابق، سيما وأن كثيراً من أركان نظام الحكم القائم لما رأوا رياح التغيير هبت على الخيمة الكبرى طووا خيامهم والتجأوا بها إلى الجانب الآخر عساهم أن يتمكنوا من معاودة نصبها هناك مرة أخرى. فهل سيكون هؤلاء ضمن القيادات في منظومة الحكم الآتي فيما لو أطيح بالحكومة الحالية؟ مثلاً اللواء عبد الفتاح يونس العبيدي أمين اللجنة الشعبية العامة للأمن العام، وهي أعلى سلطة تنفيذية في ليبيا، ووزير داخلية النظام إلى ما بعد وقوع الاحتجاجات، وهو الآن رئيس أركان قوات الثوار، أي قائدهم العسكري! هل كان طالحاً من قبل ثم أصلحه الله في ليلة؟! أم صالحاً من الأصل؟ أم ماذا؟
كما أن المجلس الوطني الانتقالي لا يخلو أمره بالنسبة لنا من علامات استفهام عن مدى موثوقيته، وهل تأكد الثوار الليبيون من حقيقته فأولوه ثقتهم؟ الله تعالى أعلم!
التدخل العسكري الأجنبي
بينما كانت كتائب القذافي تستعيد عافيتها في معركة بدت غير متكافئة بين الطرفين، فالحكومة تمتلك السلاح الجوي وغيره من السلاح الثقيل، وتعتمد على جيش نظامي مدرب، وهما عنصران لا يستهان بهما في حسم نتائج أي معركة.. بينما الأمر لكذلك إذ نجح الحلف الأطلسي باستصدار قرار دولي بالحظر الجوي على ليبيا، ثم أتبعه بهجوم صاروخي من البارجات الراسية في البحر المتوسط وقصف جوي بالطائرات القادمة من جنوب أوربا في حلف شاركت فيه كندا وأمريكا في قارة أمريكا الشمالية على القوات الحكومية والأراضي الليبية، وصار المدنيون يتساقطون كما حصل لأمثالهم في العراق قبل ثماني سنين.
استبشر الثوار بهذا التصرف، وشكروا فرنسا على صنيعها في تحشيد دول العالم لتنفيذ التدخل العسكري، حتى إن أحد خطباء الجمعة قال: “من لا يشكر الناس لا يشكر الله”، رغم أن هذا التدخل يحمل في طياته علامات استفهام كثيرة!
أولها: وزير الداخلية الفرنسي كلود غيان تحدث بالحرف العريض فوصف التدخل الدولي في ليبيا بأنه “حرب صليبية” وافتخر بذلك في لقاء صحفي في 21/3 قائلاً: “لحسن الحظ قاد الرئيس ساركوزي الحرب الصليبية لتعبئة مجلس الامن الدولي ثم الجامعة العربية والاتحاد الافريقي لمنع ارتكاب مذابح بليبيا”!
ثم إن المنظومة الغربية ليست جمعية خيرية، ولم نعهدها كذلك، فالسؤال هنا: ما الغايات التي يسعى إليها حلف الأطلسي من وراء هذا الهجوم؟ هل يعقل أنها غايات في مصلحة ليبيا خالصة؟ أو لصالح الثوار على الأقل؟ وهل إذا انتصر الثائرون على القذافي بمساعدة الغزو الأجنبي سيوافق الغزاة على أن يتسلم مقاليد الحكم شخص نزيه، أو شخص لن يحقق لهم أطماعهم التي من أجلها تدخلوا، وعلى حساب الشعب الليبي؟ ما الضامن؟ وما الضابط؟
مجريات المعارك إلى الآن تشير إلى أن دول التحالف تساعد الثوار حتى إذا احتلوا مدينة تركتهم لقوات الحكومة تستعيدها منهم، فإذا فعلت ذلك عادت قوات التحالف إلى قصف القوات الحكومية فتضطر إلى مغادرة المدينة ليستعيدها الثوار ثانية… وهكذا دواليك! حتى إن الضربات الجوية تأخرت نحو 36 ساعة بعد صدور قرار الحظر الجوي قبل أن تبدأ، وكانت خلالها كتائب القذافي تسابق الزمن، في السيطرة على المدن، حتى وصلت إلى المداخل الغربية لبنغازي. ويتساءل أحد المتابعين مضيفاً: فبأي منطق جرى تأخير القرار؟!([1]).
ما الغاية التي يرمون إليها من وراء ذلك كله؟ أغير إنهاك قوى الطرفين، ليقبل الجميع في النهاية بأي حل يفرض عليهم من الخارج، ويستقبلوا صاحبه كمنقذ لهم يفرض شروطه كما يحلو له دون أن يترك لأيٍّ من الطرفين هامشاً للاعتراض؟ وها هم أعضاء الحلف الصليبي اليوم يتناقشون في تزويد الثوار بالأسلحة، وقد تكون الأسلحة وصلتهم قبل ذلك.
الأخطر من هذا أن رجال المخابرات الغربية الأمريكية وغيرها صارت تغزو المناطق الشرقية التي تحت سيطرة الثوار. وهذا بدوره يثير أسئلة أخرى.
الوضع في القطر الليبي مقلق ومحزن ولا ندري إلى أين ستنتهي به الأمور: فالحرب قد تطول بين الأشقاء فتتحول إلى حرب أهلية! وليس لدينا أجوبة واضحة عن أسئلة عديدة منها: هل سينتهي الصراع بتقسيم البلد شرقياً وغربياً؟ ثم ما تداعيات هذا التقسيم لاحقاً؟ هل ستستعمر ليبيا من جديد؟ هل ستراق فيها الدماء أكثر وأكثر، وتدمر مؤسساتها ومبانيها ثم تأتي الشركات الاستعمارية بحجة البناء والإعمار تنهب خيراته وتتجسس على أسراره وخبيئاته؟
نتمنى أن تنتهي الحرب بين الإخوة بوفاق أو حل وسط. أو أن يتنحى الرئيس حقناً للدماء ومنعاً لمزيد من التدخل والتدهور، ويتم نقل السلطة بهدوء. كما نتمنى أن تقوم الجامعة العربية أو أي مجموعة أو دولة عربية ذات وزن وتأثير كالمملكة العربية السعودية بمبادرة – كالمبادرة الحالية عن أزمة اليمن – يمكن أن تكون أساساً أو بداية لحل يمنع من تدهور الأوضاع أكثر وأكثر.
هذه بعض أمنياتنا.. وتلك بعض مخاوفنا.
ولا أُخفي اشمئزازي – على أية حال – من أولئك الذين شاركوا النظام الغُنم أربعين سنة حتى إذا شابت رؤوسهم، وترهلت كروشهم، ورأوا أن زمان السعد والغنم قد تولى، وأن زمن الحساب والغرم قد تبدى، إذا هم يتلبسون المبادئ متخلين عن نظامهم في أحرج ساعاته، وأحلك أوقاته! ولو كانوا كما يدعون لتركوه من زمن بعيد، أو لم يشاركوه أصلاً فيما هو عليه مما يقولون ويتشدقون.
عجباً لضمائر لا تصحو إلا بعد أن تموت!
_________________________________________________________________________________
- – د. أكرم حجازي، بين صليبية الغرب وصليبية القذافي، 31/3/2011،