العيناء المرضية
وهي قصة أخذتها سماعا من شيخي الأثير الذي تربيت في كنفه وأفاض علي من فضله.
كان ذلك قبل عشرين عاما يوم حل علينا ضيفاً لأول مرة، وبات عندنا فكانت ليلة سمر من ليالي الشتاء الطويلة .. كنت أحسِب دقائقها واحدة واحدة ولسان حالي يقول :
يا أخا البدر سناءا وسنا | حفِـظَ اللهُ زمانـاً أطلعَـكْ | |
إن يطُلْ بعدك ليلي فلكَم | بتُّ أشكو قِصَرَ الليلِ معكْ |
كنا نتحلق حول المدفأة ، وعلى السراج النفطي الخافت كان البيت يشع نوراً وإيماناً .. وأنظارنا مشدودة إلى ذلك الوجه الوضيء وهو يتحدث إلينا حديث الروح للروح .، وبكيت ساعتها ما شاء الله لي أن أبكي .. لم أكن حينها أدري أني أتلقى الدروس الأولى في فن الحب والغرام الخالد !
قال الشيخ :
– في زمن التابعين خرج مع جموع المجاهدين شابان من شباب الإسلام اجتمعا على حب الله فتآخيا فيه، وانعقدت بين قلبيهما أواصر الحب والإخاء .. فكانا يذهبان ويجيئان ، ويجاهدان ويبيتان معا .
ومرت الأيام بهما سريعة وهما على هذه الحال .. حتى كانت ليلة باتا وقد هيآ نفسيهما ليوم حافل بالقتال .
وينام أحدهما . أما الآخر فكانت نوبته من الحراسة . وفي لحظة من لحظات الهزيع الأخير من الليل أثار انتباهه صاحبه يتكلم وهو يضحك في نومه ! ثم رآه يمد يده اليمنى كأنه يأخذ شيئاً ثم يردها بلطف وهو يضحك !
ثم تغيرت حاله فصار يصيح وهو يقول : لا أخرج 000 لا أخرج 000 لا أخرج !
فما كان منه إلا أن قفز إليه يوقظه بيده ويقول :
- مالك ؟! ما بك ؟!! ماذا دهاك ؟!!!
وما إن استيقظ .. وصحا إلى ما حوله حتى وضع وجهه بين يديه وانخرط في بكاء مر طويـل !
ولَكَم حاول صاحبه أن يسكته فما أفلح ،، حتى نهنه من نفسه .. فلما أفاق .. نظر في وجه صاحبه وقال :
– سامحك الله يا أخي ، ماذا فعلت بي ؟! لو تدري من أي مكان أخرجتني ؟ وأي سعادة ولذة حرمتني ؟!
قال صاحبه :
عن أي مكان وأي سعادة ولذة تتحدث ؟!
فأنشأ يقول ولا زال صوته يتهدج بآثار البكاء :
– رأيـت كأن القيامة قد قامت … ورأيت أمواج البشر قد حشرت والموازين قد نصبت ، وقد نشرت الصحف وتهيأ الجميع للحساب . وإذا بقائل يقول لي :
– اذهب وادخل ذلك القصر ! فأنت من أهل الجنة !! وفيه ستلقى زوجتك من الحور العين .. واسمها (العيناء المرضية) .
فكاد يقضى عليَّ من الفرح ! فهرولت كأني أطير … أريد الوصول إلى القصر وأرى من فيه ،، و .. ما فيه !
فإذا بثلاث من الجواري لم أر مثلهن ،، ولا أقدر على وصفهن .. يخرجن من ذلك القصر . وما إن وصلنني أو وصلتهن حتى خررت مغشيا عليّ من شدة الانبهار بجمالهن وزينتهن !! فلما أفقت قلت :
- بالله عليكن أيتكن العيناء المرضية ؟!
فإذا بهن يقلن لي :
– سامحك الله سيدي! إنما نحن الماشطات !
قلت :
- فأين أجد العيناء المرضية ؟!
قلن : هي في القصر هناك …. تنتظرك .
فتركتهن ورائي ! وهرولت ثانية مسرعاً.. فإذا بثلاث جوار أخريات .. أجملَ من الأوليات يخرجن من القصر !! وما إن وقفت بإزائهن ، ورأيت من حسنهن وبهائهن ، وتشممت من عطرهن حتى غشي علي !! فلما أفقت صحت أقول :
- بالله عليكن أيتكن العيناء المرضية؟!
فإذا بهن يقلن :
– سامحك الله سيدي! إنما نحن المكحلات !
قلت :
– فأين هي العيناء المرضية ؟! ومن تكون إذن ؟!! وكيف تكون !!!
فقلن لي وهن يتضاحكن :
– هي في القصر هنـاك … تنتظرك
وما ان سمعت جوابهن حتى تركتهن أهرول مسرعاً أغذ الخطى باتجاه القصر وأسراب الجواري تواصل الخروج .. كل سرب أجمل وأروع من سابقه !!
حتى إذا دخلت القصر .. رفعت لي غرفة من غرفه لا أدري ما أقول عنها ؟! فيها سرير عليه حجال تطل منه حورية بيضاء عيناء .. أهدابها كجناح النسر … ووجهها أشد بياضا وأجمل من القمر ليلة البدر.. وأحلى من الشمس ساعة الضحى.. أو عند الأصيل!
كيف لي أصفها ورصيد الكلام يتعثر عند أول درجة من سلم جمالها المتلاشي صعدا في السماء !!
كيف أعبر عما لم أر مثله من قبل .. ولم تسمع به أُذن .. ولم يخطر على قلب بشر!!
يكفيك أن تعلم أني صعقت عند الباب صعقة طال أوانها ..
فلما عاد إلي وعيي.. ورُدّت إليَّ روحي .. قمت لأدخل .. فإذا يد تمسك بي من خلفي!
وسمعتها تقول :
– أنا زوجتك الخالدة ، أنا العيناء المرضية .
فمددت يدي إليها فردتني بلطف وقالت :
– أما اليوم فلا . وأنا لك .. وأنت لي . ولكن .. حتى تخرج إلينا من الدنيا فأنت لا زلت فيها !
وجذبتني اليد التي كانت تشدني من خلفي … فصرت أقاومها أحاول الإفلات منها ، وأنا أصيح :
– لا أخرج ! لا أخرج ! لا أخرج !
وهنا انتبهت على يدك تنخسني ، وصوتك يوقظني . فلما تبينت أنه حُلم وليس حقيقة! دارت بي الأرض دورتها .. وتحققت من الخسارة !! فأين أنا مما كنت فيه ؟!!
ثم أطرق طويلا… ينشج بصمت. ثم قال وهو يحدث نفسه حديثاً كأنه حشرجة مودع ساعة الاحتضار :
– ترى ! هل سألقى العيناء المرضية مرة أخرى ؟ وهل ما كنت فيه رؤيا صدق ؟ أم حديث نفس .. وتهويمة خيال ؟
يقول صاحبه : وما إن طلع الصباح .. والتقى الجمعان حتى حمل سيفه وركب فرسه وقاتل قتالاً ، والله ، ما رأيته يقاتل مثله من قبل قط ! لقد كان يرمي بنفسه على الموت رمياً.. وينحدر إليه تحدرا كأنه السيل تقذف به الأعالي إلى بطون الوديان العميقة السحيقة القرار !
قتال من انكشف له الحجاب .. فصار يتطلع إلى ما في عوالم الغيب كأنه ينظر إلى عالم الشهادة . لقد هام صاحبي بحب العيناء المرضية فهو يريد الوصول إليها بأي ثمن .. وبأسرع زمن !
ويسقط العاشق المستهام .. فابتدره الناس وبه رمق ، وجاءوا به يحملونه فلما رأيته قلت له:
– هنيئاً لك عيناؤك المرضية ،، يا ليتني كنت معك !
فعض شفته السفلى ، وأومأ إليّ ببصره وهو يضحك يعني : اكتم أمري حتى أموت ! ثم قال:
– الحمد لله الذي صدقنا وعده .
فما تكلم بشيء بعدها حتى قضى وعلى وجهه ابتسامة ما رأيتها من قبل !
أيها الأحبة هل تجدون الساعة أجمل وألذ من تلاوة قوله سبحانه : (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) ؟!