سجن المفاهيم .. وقيود الفكر القديم
يقول العارفون: “الحرب تبدأ أولاً في الرأس”. وهي مقولة لا تتعلق بالحرب فقط، بل تشمل كل حركة أو فعل. الفكرة أولاً وقبل كل شيء. وبحسب الفكرة يكون المنتج النهائي لحركة المفكر فرداً كان أو مؤسسة.
بعد كل هذا الخراب نقول: أزمتنا إذن أزمة فكر. وقلناها من قبل ذلك، ونقولها ونظل نقولها ونرددها ونعمل على تصحيح الفكر البالي والمفاهيم العتيقة حتى يعتدل العود ويستقيم الظل. لولا الخلل الحاد الذي يجتاح فكرنا القديم لما كنا نقدم التضحيات تلو التضحيات، ثم نجني ثماراً لا توازي ما نقدمه ولا ما يقاربه، أو حتى يجانسه.
ليتنا اعتبرنا بالفئران !
يقول ستيفن ر. كوفى عن صديق له واحد من علماء النفس في مدينة نيويورك: كنت أسمعه يحكي كيف كان يُجري تجاربه على الفئران في نموذج خشبي من الحارات المغلقة والمفتوحة؛ حيث يوضع الفأر في بداية النموذج والطعام في نهاية النموذج من الطرف الآخر، ثم يراقب الفأر وهو يمر من خلال النموذج باحثاً عن الطعام حتى يجده. ويوماً بعد يوم يتعلم الفأر كيف يختصر الطريق إلى الطعام في وقت أقل. ثم بعد ذلك يقطع الفأر الطريق دون عناء وخلال ثوان إلى هدفه. ثم تأتي المرحلة الثانية من التجربة؛ حيث يضعون الفأر في النموذج دون طعام في الطرف الآخر فيقطع الرحلة مرة بعد أُخرى ولا يجد شيئاً. بعدها وقف الفأر محاولاته على أساس أنها غير مجدية. هنا يقول صديقي: “هذا هذا هو الفارق بين الفأر والإنسان، فالفأر يوقف المحاولة!”. يكمل ستيفن معلقاً: “كثيراً ما نكون ضحية العادات والأساليب القديمة التي لا تحقق الفائدة. ونظل نكررها مرات ومرات، نصارع نفس المشكلات، ونقع في نفس الأخطاء. فنحن لا نتعلم من الحياة. نحن لا نتوقف لنسأل أنفسنا ما يمكن تعلمه من هذا الأسبوع حتى لا يكون الأسبوع القادم مجرد تكرار له”([1]).
ليته أسبوع يا ستيفن! إنه ثمانية عقود ونيف، أضف إليها ثماني سنين!!
ثمانين عاماً ونحن نبني دولة كانت قبل سنة 1920 مجرد خرائب، ثم استولى غربان الشيعة على بنائنا العظيم فأعادوه خرائب وأطلالاً. لقد ساوَوا مؤسسات الدولة بالأرض، وهدموا كل شيء، كل شيء! فما جدوى ما بنينا؟ ثم ها نحن نعيد لمحاولة على الأسس الواهية نفسها! فما الفائدة إذا كانت نهاية البناء خراباً يباباً؟
ألا من سائل يسأل ويقول: قفوا..! لماذا حل بنا ما حل من خراب؟
الخراب – يا سادة! – كان في الفكر والمفاهيم أولاً. هل تدرون أنه لم يكن شيء طيلة تلك العقود الثمانية يقوم في وجه زمر الخراب كي لا تمنع الإعمار وتعرقل مسيرة البناء سوى القوة، فكان العراقي الأصيل: يداً تبني ويداً تمسك السلاح في وجه المخربين من سكنة البلد نفسه، حتى إذا زالت القوة حل الخراب. لم يكن شيء غير القوة.. القوة التي لم تسندها بصيرة تغوص في أعماق المشكلة، وشجاعة تقول: هاهنا العلة.
عاقبة الأكاذيب القديمة والمفاهيم العقيمة
هكذا جنينا على أنفسنا بأنفسنا!
تكلمنا في الدين وكذبنا يوم أن قلنا: “الدين واحد لا فرق بين سني وشيعي”، فجنينا على أنفسنا بأنفسنا. وإذا كانت الكذبة – وعلى الله والرسول – بهذا الحجم فماذا تتوقعون أن يكون حجم عاقبتها؟! وإلا ما ظن الذين يفترون على الله الكذب والله تعالى يقول: (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ) [النحل:116]؟!!!
هذا أول كذب ومفهوم خرب يجب أن نجتثه من رؤوس المفلسين. يكفي أن دفعنا ثمن هذا الانحراف ثمانين سنة أعقبتها ثماني سنين!
وتكلمنا في السياسة وكذبنا يوم قلنا: “الشعب العراقي شعب واحد”. وهذا مفهوم آخر في أمَسِّ الحاجة إلى الاجتثاث. نعم.. العراق – كأرض – واحد، ولكن يقطنه شيعة يحملون من الحقد والعداء المؤدلج بالفكر والمشرعن بالدين ما لا يحمله اليهود ضد الفلسطينيين! إنهم يسعون ليل نهار لتدمير السنة واجتثاثهم وتهميشهم وإذلالهم والتضييق عليهم في نطاق أرزاقهم وخناق أعناقهم، وتشييع مناطقهم والسيطرة عليها بفرقهم العسكرية وقواتهم الأمنية وبكل ما يملكون من قوة ونفوذ وكيد وكر في الليل والنهار. فأين الشعب الواحد أيها السذجة؟! أو….. أيها الكذبة؟!
وأشد الناس سذاجة أو كذباً من جعل هذه الحال وليدة الاحتلال!
بل هي وليدة الاختلال.. الاختلال في الفكر والمفاهيم. إذا أراد الطبيب علاج مرض فعليه بتشخيصه التشخيص الصائب، وأن يسمي المرض باسمه مهما كان خطره. علاج الوضع ينطلق من الاعتراف بحقيقة الخلل: نحن شعبان مختلفان متضادان لا يجمع بيننا جامع، سوى أننا نسكن أرضاً واحدة. هذا هو التوصيف أو التشخيص الصحيح للحالة، وعلى أساسه ينبغي أن يكون العلاج. أنت شيعي وأنا سني، وتؤخذ الحقوق على هذا الأساس، لا سيما وأن مفهوم السني والشيعي ما عاد مفهوماً دينياً فقط، إنما أصبح مفهوماً سياسياً، فعلام تخافون أيها العلمانيون؟ وتخجلون أيها (الإسلاميون)؟ لو كان المفهوم العملي للسياسة المتبعة غير ذلك لما صار تصنيف العراقيين ثلاثياً: سنة وشيعة وأكراد. فالأكراد سنة فلماذا صاروا شعبة ثالثة؟
أقل ما نحتاجه اليوم هوية سياسية للسنة. فكما أن للشيعة – على اختلاف توجهاتهم وأطيافهم – هوية سياسية تجمعهم تقوم على حد أدنى من المبادئ المشتركة تواطأوا على عدم التفريط بها، وللأكراد كذلك هوية سياسية تجمعهم: فلا أقل من أن يكون للسنة هويتهم السياسية التي تحافظ على الحد الأدنى من وجودهم.
أقول: هذا أقل ما نحتاجه. فكيف ونحن مفرّطون بهذا الأقل؟!
ولماذا؟ لأن مفاهيم خربة تسكننا.. لأن مفاهيم خربة نسكنها ونقيم في سجنها.
ألا ما أكثر المفاهيم الخربة ! ألا ما أكثر السجون !!
والمفاهيم الخربة في الدين والسياسة والثقافة ليست قليلة، وهي وراء كل الكوارث التي دارت وما زالت تدور دائرتها علينا. خذ هذا المفهوم الساذج أن “صراعنا سياسي لا طائفي”. أين هذا من الحقيقة التي لا تخفى على متبصر: أن الصراع أعمق من سياسي، وأوسع من طائفي، وأكبر من ديني.. إنه صراع حضاري بين قوميتين: فارسية وعربية، يتشكل تاريخياً حسب معطيات الواقع، ويعبر عن نفسه اليوم طائفياً بالصراع بين الشيعة والسنة؛ إذ التشيع ما هو إلا الصورة الظاهرة للحضارة الفارسية والديانة المجوسية التي تختفي وراءها، والشيعة اليوم – علموا أم جهلوا – ما هم إلا مطية للفارسية المجوسية التي تهاجم العربية الإسلامية التي تتمثل في السنة. ولكن المشكلة فيمن يتقدم الصفوف وهو لا يعرف عن الجذور شيئاً. “فحتى تفهم ما يحصل عليك أن تعرف ما حصل”. وهذا مفقود أو ضعيف.
ألا ما أكثر المفاهيم الخربة التي تسكن فكرنا، وتسجن كينونتنا! وحين أستحضر بعضها وأنا أنظر إلى النقل المباشر لجموع المتظاهرين في شتى بقاع العراق، ثم أنظر إلى التأطير السطحي والتفسير الساذج والتنظير القديم الخرب الذي تقدم من خلاله تلك التظاهرات على بعض القنوات الفضائية.. حين أستحضر وأنظر أقول: ألا ما أحوجنا إلى ثورة عارمة شاملة تأتي على تلك المفاهيم البالية والأفكار القديمة المتداعية!
ألا ما أحوجنا إلى فأس تهدم جدران هذه السجون الخفية قبل أن نتوجه إلى هدم السجون المرئية، فلولا تلك السجون – والله – ما دخلنا يوماً هذه السجون!
_______________________________________________________________________________
- – إدارة الأولويات، ص277-278. ↑