مقالات

الحقيقة كما هي ؟ أم كما نريد ؟

قبل حوالي أسبوعين نشرنا خبراً في (مرصد القادسية) بعنوان (موقف الشيعة من مقتل أُسامة بن لادن)[1]. أشار عليّ بعضهم بعدم نشره، لكنني ارتأيت غير ذلك؛ فثمة خير أراه فيه قد لا يراه غيري. ومن ذلك أن الموضوع يمكن أن يكون بمثابة مسبار – وإن كان غير كامل الدقة – لقياس مستوى الوعي في أوساطنا.

تعليقات القراء

كانت ردة فعل القراء – كما توقعتها – متباينة.

منها ما اعتبرته متوازناً، ومنها ما أصاب كبد الحقيقة، ومنها ما جاء متطرفاً متشنجاً يريد اكتساح أو اجتثاث ما يقف أمامه من آراء لا توافقه أو لا يرغب سماعها. وهذه بعضها:

الأخ (أشرف الزبيدي) عبر عن رأيه بهدوء وذوق رفيع: “مع احترامي للموقع وبالأخص الدكتور طه.. بس برأيي ما أعتقد يطلع كلام بحق أسامة بن لادن من افواه شيعية!!!”.

ونصحنا الأخ (أبو حمزة الراوي) مشكوراً: “لا تخلطوا الاوراق فالمؤامرة واضحة. واتقوا الله وجزاكم الله خيراً”.

وضحكت وأنا أتخيل أخي الذي وقّع باسم (ابن لادن) عابس الوجه مقطب الجبين، ويداه تطيشان في الهواء قائلاً: “استح على وجهك يا كاتب المقال أسد الاسلام وقاهر الرافضة والأمريكان عميل لإيران؟! والله إن أشد الناس فرحاً باستشهاد الشيخ هم الروافض المجوس”.

أما الأخ (أبو حنيفة) فقال: “حدث العاقل بما لا يعقل فإن صدق فلا عقل له”. ثم تجاوز فأضاف: “خبر ساقط متنا وسنداً”.

وفي الوقت الذي كرر الأخ (أبو الحكم) فيه القول نفسه: “حدث العاقل بما لا يعقل فإن صدق فلا عقل له. خبر ساقط متنا وسنداً”. وزاد فقال: “خافوا الله في اسد المجاهدين رحمه الله”، توسط الأخ (الراوي) فسأل بتُؤَدَةٍ وروية: “هل هناك دليل على مصداقية هذا الكلام في موقف الشيعه من مقتل أسامة بن لادن؟ أفيدونا يرحمكم الله. وإلا هذا الكلام غير معقول”.

لكن الأخ (saeed) ذهب مذهباً آخر وهو يقول: “هذه المرأة بهذه الطريقة تعتبر ممن يفكر بعمق وعلى المدى الطويل للمخطط الشيعي لنشر التشيع في المنطقة بل العالم”. ثم تحسر بقلب من يحمل هماً عميقاً وأردف: “ولكن يا ليت قومي يعلمون”.

وأيده الأخ (خالد أميري) وهو يتحفنا برأي قيم عميق فيقول: “المشكلة أن مفهومنا للعمالة والتبعية سطحي جداً فنحن نتصور العميل هو الذي يتلقى الأوامر والأموال مباشرة. ولكنْ هناك طرق خفية كثيرة للتحكم بهكذا جماعات وتنظيمات…. هناك الكثير من الأدلة على هذه الفكرة. وفي الجانب الاخر هناك كثير من المبررات والاراضي الخصبة لنشوء هكذا جماعات منها ما يحصل الان، مثلاً: لأهل الشام والسكوت المريب للحكام والعلماء” وشملنا بالريبة فلم يتردد أن قال: طبل حتى هذا الموقع الذي له شعبية كبيرة عن ما يحصل لهم… سبحان الله.. وأرجو نشر التعليق”. وددت من الأخ خالد أن لا يردد الخطأ اللغوي الشائع الذي ورد مرتين في قوله: “هكذا جماعات”. والصحيح أن يقول: (جماعات كهذه).

شكراً لكم

شكراً لكم أيها الإخوة! لقد فرحت لهذا الأدب الذي تحليتم به، بالرغم من الانفعالات التي طغت على بعضكم. وقلت: الحمد لله هذه نعمة. إخواننا يعبرون عن آرائهم بكثير من التوازن. نعم وردنا تعليق أو اثنان – لم ننشرهما – حملا في أحشائهما شتائم؛ فشرط النشر في موقعنا عدم احتواء التعليق على سباب وما شابهه من إساءة. فمن شتمنا سكتنا عنه: لا ننشر سوءته، ولا نكشف عنها؛ لأننا نربأ بأنفسنا أن ننحني لمن هو دوننا. أما سواه فمهما كانت آراؤهم مخالفة فإنها ستجد طريقها للنشر بحمد الله.

أحد الردود وصلني على بريدي الشخصي من الأخت الفاضلة (أماني)، وقد أجبتها عنه على بريدها. لكن يبدو أن تأثرها كان كبيراً بحيث لم تكتف بإجابتي الخاصة حتى راسلت إدارة الموقع فقلت للأخ المدير: انشر تعليقها؛ فهذا حقها علينا، بل فضلها. كانت رسالتها بطول ما اعتمل في نفسها من ألم وفاض من شجن. وكان ردي مركزاً. أقتطع لكم خلاصة ما قالت وما قلت، محلّىً بإضافات تقتضيها طبيعة الموضوع:

قالت الأخت (أماني): “دخلت الموقع.. قرأت مقالاً احزنني جدا وفيه مغالطة كبيرة، ونال من مشاعري. واعتقد سينال من مشاعر الكثير من المسلمين في سبيل الطعن بالشيخ اسامة بن لادن رحمه الله بحجة عجوز شيعية ومن متى ناخذ ديننا من جهلة الشيعة؟”. واسترسلت لتضيف بعد أن تساءلت نافية معرفتها بـ”مصلحة الكاتب في اقتباس” خبر كهذا: “ثم كيف نقارن الشيخ اسامة الذين هجر الاهل والمال وذهب للجهاد في سبيل الله وقتل على يد الجيش الامريكي بحسن نصر الشيطان العميل الايراني؟ اعتقد ان المقال خطا كبير انه يوضع في موقع القادسية”.

بعد أن عبرت لها عن شعوري تجاه رسالتها قائلاً: “ممتن لك أيها الفاضلة الكريمة أماني العمري!… أما ما يتعلق بالموضوع الذي أثارك فنشكر لك غيرتك وحماسك، وأقول: لا داعي لكل هذا، فالمنشور ليس مقالاً عبر فيه الكاتب عن رأيه، إنما هو خبر أورده كما رأى وسمع دون بيان موقف سلبي أو ايجابي مما ورد فيه. وللقارئ ان يفهمه كما يشاء، لكن ليس له أن يعترض على حصوله كواقعة موثقة ولا الاعتراض على إيراده كخبر. والرأي يعتدل ويثرى كلما زادت مساحة اطلاع صاحبه على الوقائع والأحداث. لك ان تقولي: ان المراة شيعية وأخطأت او كذبت في كلامها وما شابه ذلك. ولكن اذا كان هذا ما حصل فما ذنب ناقله؟ وأن يرى أحد عدم وقوعه فهذا يناقش بالدليل، أو ينكر ايراده كخبر فهذا رأي يحترم، لكن لا يتجاوز على حق الناقل كشاهد (وما شهدنا الا بما علمنا)، ولا حق الناشر كناقل (وناقل الكفر ليس بكافر). وللقارئ مع هذه الحيثيات أن يرى ما يرى فهذا حقه مع نفسه”.

رسالتي لكم أيها الإخوة !

ما أريد قوله أيها الإخوة، طلباً للفائدة على قاعدة (استثمار الحدث أهم من الحدث) ما يلي:

1. لا أرى من داع لما لمسته من تشنج؛ فالمنشور – بقدر تعلقه بالناقل والناشر – (خبر) منقول لا (إنشاء) معمول، ولا رأي يمكن نسبته إلى أحد. وللقارئ أن يفسره بما شاء ويحمله على ما يشاء: هذا شأنه ومسؤوليته.

2. للقارئ علينا حق واحد فقط، هو موثوقية الخبر لا غير؛ إذ أن التعريف العلمي للخبر هو (ما احتمل الصدق والكذب). وأقول: الخبر تغلب عليه الصحة؛ فالناقل أعرفه، وظاهره الصدق، ولا أزكي أحداً حد الجزم، وقد شهد الواقعة، وهو الذي كتب ما شهد: رؤية وسماعاً وأرسله إليّ. فمن تعجل بالجزم أن الخبر “ساقط متناً وسنداً” فقد جانبه الصواب؛ لأن احتمال الصدق وارد. والبحث العلمي يلزمه بأن يطالبنا أولاً بصحة الخبر، ثم بعد ذلك له أن يحكم بما يحكم به طبقاً للقواعد العلمية.

3. أما المتن، فهو – كنص – تغلب عليه الصحة، ولا أجزم، إلى حد قائله (آمال كاشف الغطاء). وما بعد ذلك فرأي يحتمل الصحة والخطأ.

4. للقارئ أن يطعن بشخصية القائل، وأنه امرأة شيعية (حاقدة كاذبة)، وليقل ما يرى. لكن ليس من حقه أن يطعن بوقوع المخبر به كما وقع ما دام النقل صحيحاً.

5. وأهم نقطة أراها جديرة بالنقاش هي: هل الحقيقة هي ما يعجبنا فقط؟ أم هي ما وقع بالفعل سواء أعجبنا أم أغضبَنا؟ أفكلما أزعجنا شيء بادرنا إلى عدم وجوده أو وقوعه؟

إن كنا كذلك فلن نعمر طويلاً؛ فإن العالم من حولنا مليء بما يزعج ويغضب.

إن كنا كذلك فلن نبلغ يوماً درجة العارفين. ستجمد أفكارنا، ويضيق أُفقنا، ويتقلص اطلاعنا، وسنصحو يوماً لنجد أنفسنا غرباء شاذين في فهمنا للحياة وعلاقتنا بها.

تحياتي وتقديري لكم جميعا. لا تترددوا من إبداء أي رأي، أو إسداء أية نصيحة، ولا تنزعجوا إن لم نأخذ بها: كلها او بعضها.

فالحقيقة تبقى……. كما هي كائنة.. لا كما نريدها أن تكون[2].

_________________________________________________________________________________

  1. – نص الخبر: (في اجتماع في دار المدعوة (آمال كاشف الغطاء) – وهي شخصية دينية من عائلة معروفة في مدينة النجف، ترتبط بشكل مباشر مع المجلس الاعلى الاسلامي بقيادة (عمار الحكيم) وقد كانت من ضمن قائمة الائتلاف العراقي الموحد بتسلسل يحمل الرقم (36) – ووسط عدد من الحاضرين من الشخصيات الدينية والفكرية وبعض الموظفين الحكوميين تطرقت الى موضوع مقتل زعيم القاعدة وقالت ما نصه: (استشهاد الشيخ اسامة بن لادن رحمه الله!! له تأثير في الوضع الامني للمنطقة). هكذا تقول امرأة شيعية سياسية ودينية وفكرية، وسط ذهول واستغراب الحاضرين في الاجتماع من الشيعة! فسألها أحد الحضور قائلا: (كيف تترحمين على ابن لادن وتقولين هذا الكلام ؟) فأجابته: إن مقتل اسامة بن لادن له تداعيات خطيرة على النفوذ الايراني والمد الشيعي في العراق ومنطقة الخليج، وإن مقتله يمثل رسالة الى ايران بأن التالي هو حسن نصر الله، وإن معظم الاعمال التي تقوم بها الحكومة الايرانية قد كُشفت؛ فقد ساهم تنظيم القاعدة بتوسيع النفوذ الشيعي في العراق ودول الخليج وكثير من دول العالم. ثم أردفت السيدة آمال بالقول بأن مواكب عزاء قد اقيمت في النجف على مقتل الشيخ أسامة بن لادن في منازل بعض المرجعيات الدينية).
  2. – يبقى الخبر في نهاية المطاف يحتمل الصدق والكذب؛ فهو خبر آحاد منقول عن واحد قد يعتريه الوهم، والانحياز، والفكرة المسبقة. وقد يبدو لنا صادقاً، لكن قد يحرف أو يتأول. ما أريد قوله: هذا ما كتبه لي ذلك الصديق، والله أعلم.
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى