نعم .. زحفت الملايين ولكن………… في الاتجاه الآخر
دخل الثوار الليبيون أمس العاصمة طرابلس، ووصلوا الساحة الخضراء، وأسموها بـ(ميدان الشهداء).. تلك الساحة التي طالما شهدت صوت الرئيس القذافي وهو يهيب بـ(الملايين) أن تزحف، وتزحف لتقبض على (الجرذان)، وهو الوصف الذي كان يضفيه على معارضيه من بين أوصاف ليس آخرها (المكبسلين والمقملين)!
هل يعني ذلك قرب نهاية حقبة امتدت لأكثر من أربعة عقود؟
وهل هناك احتمال آخر؟
نعم ما زال معقل الرئيس ومقر إقامته في المنطقة المحصنة (باب العزيزية) صامداً وعصياً على الاختراق، وأخبار مؤكدة مصدرها (الثوار) عن قيادة نجله الأصغر (خميس) قوة عسكرية كبيرة تتجه صوب وسط العاصمة لاستعادتها!
ولكن هل يغني ذلك شيئاً عن النهاية التي باتت محتومة؟
الأيام، وربما الساعات القادمة ستتكفل بالجواب؛ فعلام الاختلاف؟
أسئلة وعبر
وبين هذا وذاك تتبادر أسئلة تريد جواباً، وتبرز عِبر تبحث لها عن معتبر.
- المجتمع الليبي مجتمع قبائلي، فللقبائل دورها في توجيه الأحداث والتأثير في مسارها. فأين قبيلة القذافي؟ وأين حلفاؤها من القبائل الأخرى؟ هل هي راضية بما يجري، وما يجري تدور رحاه على أحد أبنائها، وليس هو ابناً عادياً، إنه رئيس الدولة؟!
- إصرار محكمة الجنايات الدولية على تسلم القذافي – وكذلك نجله سيف الإسلام – حياً لمحاكمته. ولقد تبين اليوم أن رئيسها لويس مورينو أوكامبو التقى قبل ثلاثة أيام في بروكسل عاصمة بلجيكا في زيارة غير معلنة قيادة حلف الأطلسي مشدداً على ذلك. وما إن أعلن الثوار قبضهم على سيف الإسلام حتى بدأ رئيس المحكمة مفاوضات معهم لتسلمه! لماذا هذا لإصرار؟ أليس ما جرى في سوريا بحق المدنيين العزل والمتظاهرين السلميين يفوق ما جرى في ليبيا؟ وأفلام الجرائم الوحشية أمست من العروض المعتادة في شاشات الفضاء! سيما وأن المعارضة الليبية تحولت إلى قوات مقاتلة مسلحة منذ وقت مبكر، فكان طبيعياً أن يستعمل السلاح ضدها من قبل الحكومة، بصرف النظر عمن هو البادئ، فتلك مسألة ثانية. بينما المعارضة السورية ما زالت مدنية سلمية رغم ادعاءات السلطة الحاكمة بعكس ذلك، وهو ما لم تستطع إثباته بغير الدعوى إلى الآن، فلا صورة، ولا فلماً ولا سواه يؤيد ما تدعيه من ذلك. فلماذا محكمة الجنايات مصرة على تجريم القذافي إلى هذه الدرجة، بينما هي متراخية تتثاءب وهي تنظر إلى ما يحصل في سوريا دون كبير اهتمام؟
- ما من شك في أن العالم كله – بمن فيه عامة الليبيين – سيحكم على القذافي بعد سقوطه بأنه ظالم وطاغية جبار، وسيصفه بعضهم بالخيانة. وسيحكم عليه بعقوبات مشددة مرشحة أن تصل إلى الإعدام. ولكن لو افترضنا أن القذافي سينتصر في المعركة فما من شك في أنه – ومعه الكثيرون من الليبيين وغيرهم – سيحكم على معارضيه بالخيانة والإجرام. وسيكون مصيرهم أسود على يديه. فأين الحقيقة؟ هل الحقيقة مع القوة في نهاية المطاف؟ أضحك كلما سمعت من يقول: (التاريخ لا يرحم أحداً)؛ وكأنهم لم يقرأوا التاريخ! وكأن التاريخ نازل من السماء، وليس سطوراً قد تكتبها الأهواء! وكأن التاريخ أنصف جميع الناس، فلم يرفع كثيرين حقهم الوضع، ولم يضع كثيرين حقهم الرفع! وكأن التاريخ له حكم واحد ليس فيه من خلاف! وكأن .. وكأنّ… . إذن لأي شيء جعل الله لخلقه يوم حساب؟ لقد صار التاريخ صنماً يعبد من دون الله جل في علاه، ولقد آن لنا أن نقول: كفى؛ فنحن مسلمون خشيتنا من الله ابتداءً وانتهاءً، فتضخيم التاريخ إلى هذه الدرجة رياء، والرياء نوع من الشرك يحرق الأعمال ويذروها هباءً مع الريح.
- انتصر الثوار بمساعدة حلف الناتو. وهذه حقيقة لا أظنها مجالاً للاختلاف. فهل يجوز الاستعانة بالكفار على مسلمين يرميهم بسلاحه الذي كثيراً ما يخطئ اتجاهه فيرتكب فظائع بحقهم يقصر الكلم عن وصفها بحجة التخلص من حاكم ظالم؟ أفتونا أيها العلماء! الغريب أننا إلى الآن لم نسمع من أي مجمع علمي ديني فتوى تدين ذلك. وإذا كان ثمة من يجيز الاستعانة هذه فهل هي مفتوحة على مصراعيها هكذا؟ أم لها قيود تحددها وشروط تجيزها؟ فهل توفرت تلك الشروط والمحددات في الحالة الليبية؟ إنه سؤال مهم وخطير على علماء المسلمين أن يجيبوا عليه، ويفهموا الجماهير الحكم الشرعي الصحيح، قبل أن تصبح ديار المسلمين مسرحاً لعمليات الصليبيين، دون حرمة لأي دولة من دول الإسلام.
- وجدنا (إسلاميين) كونوا أخيراً علاقات طيبة ونافعة ومشكورة مع النظام رئيساً وأولاداً، صاروا قريبين منه بسببها، ومدحوه لأجلها مدحاً ربما تجاوز الاعتدال، ثم بمجرد ميلان الكفة ضده انقلبوا عليه وشجعوا على استئصاله، غير ناظرين إلى سالف أياديه وسابق أفضاله!
- علماً أنني لا أتكلم عن وصوليين تهرأت مقاعدهم على كراسي السلطة، وتقرحت معدهم على موائدها مثل عبد السلام جلود الذي كان الرجل الثاني في الدولة وظل كذلك إلى ما قبل يوم واحد من وصول الثوار إلى العاصمة، ليهرب إلى إيطاليا ويلقي من هناك خطاباً عنترياً تقووياً في مظالم النظام والتشجيع على إسقاطه والإجهاز عليه! تفٌّ تفّ.
- من مصلحة الغرب تقسيم ليبيا وغيرها من دولنا نحن العرب والمسلمين، ويبدو لي أن الفرصة حانت له في ليبيا لتحقيق هذا الهدف بأن يترك الثوار يسيطروا على جزء، ونظام القذافي يسيطر على الجزء المتبقي؛ فلماذا لم يفعل حلف الناتو ذلك؟ سؤال كبير يبحث عن جواب. أم نحن متطرفون في نظرتنا وتبنينا لـ(نظرية المؤامرة) خصوصاً فيما يتعلق بمسألة التقسيم؟ أما أنا فأرجح ما يلي: التقسيم هدف أكيد من أهداف أعدائنا، ولكنه ليس خارج نطاق حيثياته الميدانية الراهنة التي من دون توفرها لا تتحقق المصلحة المرجوة من ورائه. عندها يقتضي الحال التأجيل.
- لا يمكنني أن أنسى اصطفاف القذافي وزميله الرئيس السوري حافظ الأسد مع إيران في حربها الطويلة (1980-1988) ضد العراق. وكنت أبحث عن سر اجتماع هؤلاء الثلاثة دون سواهم علينا فاهتديت بعد حين إلى احتمال كون القذافي ينحدر من سلالة شيعية فاطمية؛ فقد حكم الفاطميون المغرب العربي قرابة ثلاثة قرون. فجمعت العقيدة الشيعية: القذافي الفاطمي وحافظ النصيري بالخميني الاثني عشري. ثم أفصحت الأيام بعد ذلك عن تبني القذافي لـ(الفاطمية) والدعوة إليها وأنها تمثل المشروع الأمثل لوحدة الأمة وانتصارها. لكن هل كان الرجل يتبنى العنوان بمعناه الديني العقائدي؟ أم بمعناه التاريخي القومي كتراث يعتز به، وقد يؤدي به هذا الاعتزاز والانتماء إلى التلطخ ببعض لوثاته الدينية، ويدفعه إلى ولاءات مع من يشبهونه ولو بنسبة معينة، لم يصل بعد إلى سبر أغوارهم العقائدية وغاياتهم القومية؟ هذا شيء يحتاج إلى تحقيق لا أملكه اللحظة.
- رغم ما صنعه القذافي لإيران، وقد يكون – إضافة إلى السبب الذي ذكرته آنفاً – مخدوعاً بطروحاتها (الثورية) التي تتوافق مع مزاجه وميوله، فقد خانته إيران أحوج ما يكون إليها. وهذه هي إيران!.. (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) (الحشر:16). فهل يعتبر بذلك حلفاؤها وشيعتها؟ لا أراهم يفعلون حتى (يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ) (النحل: 45). وسوريا مرشحة لذلك ولن ينتفع نظامها حين تقع الواقعة من إيران بشيء. وسينقلب عملاؤها بالصفقة الخاسرة والتجارة البائرة بعون الله.
- يعجبني في القذافي: الشجاعة والإصرار وروح التحدي! والبوح بما في داخله من أفكار يعتقدها ومبادئ يؤمن بها والصدع بها مهما كثر في حضرته وقام بوجهه المعارضون والمخذلون، في زمن افتقد العالم فيه هذه السجايا حتى كادت تتلاشى إن لم تكن تلاشت حقيقة. هل رأيتم وقفته في ديسمبر/2009 وخطابه الأول والأخير في الجمعية العمومية للأمم المتحدة؟ كيف أنكر على العالم خنوعه لأمريكا والدول الكبرى؟ واستهزأ بميثاق الأمم المتحدة حتى مزقه ورماه خلفه على وجوه ممثليها الجالسين وراء ظهره على ربوة منه؟ وأنذر رؤساء الدول بمصير مشابه لمصير الرئيس صدام حسين؟ بكل شجاعة وثبات في كلمة استمرت ساعة ونصف الساعة! لولا أن الشجاعة وحدها لا تكفي للرشاد والسداد وبلوغ الأهداف وتحقيق الغايات؛ وإلا لنفعت العراق شجاعة صدام وإصراره وتحديه وثباته وشموخه الذي خضع للاعتراف به الخصوم والأعداء قبل المؤيدين والأصدقاء.
وهكذا ظل القذافي يرعد ويزبد ويرفع يديه متوعداً، يهيب بالجماهير أن تخرج وبـ(الملايين). لكن الملايين تأخرت كثيراً عليه.
ثم خرجت.. نعم خرجت ولكن…….. في غير الاتجاه الذي كان يشير!