مقالات

الحالمون وقصة جعفر المجنون

C:\Users\f\Downloads\123456.jpg

يضحكني الحالمون من أصحاب المشروع (الوطني) الفاشل (أقول “مشروع” تجاوزاً من باب المشاكلة اللفظية، وإلا فهؤلاء ليس لديهم من مشروع)!

والجوانب التي تثير الضحك فيهم كثيرة ومتعددة الجوانب: أفكارهم، أقوالهم، تصرفاتهم، طروحاتهم، قوالبهم الجامدة، مراوحتهم في المربع الأول والدنيا والأحداث تسير. فكأنهم شيخ سوء طالت به الحياة فقعد في الدار (لا شغلٌ ولا عملُ)، فليس أمامه لتزجية الوقت وملء الفراغ لحين الرحيل إلى مثواه الأخير سوى التدخل في الصغيرة والكبيرة بالرفض والاعتراض، زعيقاً وصياحاً، إثارة وجلبة.

يوم أول أمس أعلن مجلس محافظة صلاح الدين عن جعل المحافظة إقليماً فدرالياً. فإذا بفريق من الرافضين (ولا أقول: كلهم) بدلاً من أن يعبر عن موقفه طبقاً لما يقتضيه أدب الخلاف من منهجية علمية، ومراعاة للذوق والسلوك الرفيع، نصبوا من أنفسهم أوصياء على العراق والعراقيين، وجعلوا من رأيهم نصاً منزلاً لا يعتريه النقص ولا النقض! فكالوا من التهم بالخيانة والعمالة والوصم بالعار إلى آخر قائمة التوصيفات المقرفة التي بات يحفظها عنهم الصغير والكبير، لمن أعلن وأيد الفدرالية. وهذا يدل على أنهم وصلوا إلى فقدان الثقة بأنفسهم، وحد اليأس من قدرة فكرهم على إقناع الناس من جهة، وعلى أنهم بعيدون عن الواقع، فاقدون لخيوط الصلة والتواصل معه، فلا يدركون أن تهمهم هذه شملت أغلب أبناء جلدتهم، وأنهم بذلك فقدوا آخر ما بقي لهم من موقع ومنزلة في نفوسهم!

لا أدري ما الذي في عقول هؤلاء الواهمين المتجاوزين لأقدارهم يحملهم على تنصيب أنفسهم أوصياء على العراق، ويجعلهم يتصورن أنه ليس من وطنيين غيرهم، وأن من يخالفهم في الرأي عملاء دخلاء نزلاء؟! هل هو (الإسقاط)؟!

قبل رمضان الفائت جمعني مجلس بأحد هؤلاء، يمتلك قناة فضائية مشكوكة التمويل، أعرف صلته بالمالكي جيداً، وحبله السري الرابط بإيران، وعن طريق مَن مِن (عضاريطها) يستلم راتبه الشهري. فتكلم فإذا أول ما ابتدأ حديثه به التشكيك وإضفاء صفة العمالة على الداعين للفدرالية. فقلت في نفسي ما دام هو الذي جاء بالعقرب على يده إذن فليسمع، والبادئ أظلم. فقلت له: إن رافضي الفدرالية أولى بالتهمة، وإليك الدليل:

فهم أولاً تحوم حولهم الشكوك بالعمالة للمالكي والعمل سراً معه لإحباط مشروع الفدرالية، وأنت تعلم أنه هدد الداعين إليها بأن بينهم وبينها دماءً ستصل إلى الركاب.

وثانياً: إيران تقف ضد فدرالية العراق، فالتهمة للرافضين بالعمالة لإيران واردة جداً.

وثالثاً: العمالة لأمريكا قريبة منهم؛ لأن الأمريكان يعلمون يقيناً أن الفدرالية في صالح السنة، وهم جاءوا لإضعافهم، وخرجوا يبيتون الثأر ممن دحرهم ومرغ كرامتهم بالوحل.

فهل هناك من جهة رابعة للعمالة أبقاها الرافضون يمكنك أن تتبرع بها لتكون من حصة الدعاة للفدرالية؟

فلما وجد أن الرياح جرت بغير ما توقع مما اعتاد سماعه من كثيرين من المحامين الفاشلين للقضية، الذين لا يعرفون سوى أسلوب الدفاع، ولم يتطعموا أسلوب الهجوم الحكيم وإعادة الجمرة إلى حضن من أساء الأدب، صار يتراجع ويقسم الأيمان المغلظة على حسن نيته وأنه خائف وملتاع على مصير السنة وتقسيم العراق. ولا أدري من فوضه لتمثيل السنة والكلام باسمهم واسم العراق العظيم؟!

ثم ما هذه الموهبة العجيبة في الجهل، وهذا العقم في الفكر، والعجز عن الحركة البسيطة لتقليب أي مصدر عن الفدرالية ليعرفوا أنه لا علاقة بينها وبين التجزئة والتقسيم، وأن الدول المتطورة تلجأ أساساً للفدرالية للحفاظ على وحدة شعوبها المختلفي الثقافات، ومنع التقسيم؟

من عادتي أحياناً – عندما أجد غريمي بهذا المستوى من التخلف الفكري والسلوكي، وأنه ليس في حالة تؤهله للفهم، أو هو قد نوى ابتداءً أن لا يفهم، أو أنه يدري ولكن يتغافل لحاجة في نفسه – أن ألجأ إلى النكتة والسخرية اللاذعة، وأجد هذه الطريقة أفضل كي أجعله يتطامن، وتنكمش لديه حالة الانتفاخ الذاتي، التي جاوز بها حجمه.

ولولا تماديهم في السماجة والغرور والإساءة إلى الآخرين لما كتبت في حقهم ما كتبت وبهذا الأسلوب. وإن كنت – في العموم – أفضل الإعراض والسكوت، ولكن عزائي وعذري أنني لا أسمي جهة أو أحداً بعينه.

كان في مدينتنا شاب مجنون اسمه (جعفر)، كنت أراه كلما ذهبت إلى العيادة الطبية الشعبية قد ارتدى صدرية بيضاء ونصب من نفسه بواباً على عيادة أحد الأطباء، يأمر وينهى، ويمنع ويسمح. من المؤكد أنه ليس من أحد يطيعه سوى بعض الغرباء ممن لا يعرف ما هو عليه من حالة تخلف عقلي.

يظهر أن جعفر قد تقمص الدور، وصدق نفسه أنه بواب، وفي عيادة شعبية! كم ضحكت من حالته وهو يقدم العريضة تلو العريضة لمدير العيادة (د. أمين عماش) يطلب فيها منحه إجازة لمدة ثلاثة أيام، ثلاثة أيام فقط، فيأتيه الجواب موقعاً من المدير الطريف: (لا أوافق). فيحمل العريضة شاكياً متذمراً يعرضها وهو يصيح: يا ناس! يا عالَم! الله يرضى؟ أريد إجازة ثلاثة أيام فقط أستريح فيها ولا أحصل عليها؟

غوار الطوشي عبّر عن الحالة بصورة ربما هي أطرف وأدعى إلى الضحك. خدعه أحدهم فباعه حافلة أو سيارة حكومية لنقل الركاب، واستلم منه المبلغ نقداً بعد أن أجلسه في الكرسي الأمامي قريباً من السائق، وقال له: هذه سيارتك، ثم نزل وتركه.

فرح غوار بما آلت إليه حاله، ابتسم وفرك يديه، وعدل من جلسته. وحتى يتمتع بملكيته ويحس بها حقيقة صار يصدر الأمر تلو الأمر إلى السائق: “قف هنا، سر من هنا، امرق من هذا الطريق، احمل هذا، أنزل هذا…!”. كان السائق يتلفت ولا يدري ما هي القصة؟ من هذا؟ وماذا يريد؟ ومن فوضه كل هذا؟!

أخيراً أوقف السائق الحافلة على اليمين، فتل شاربيه، وكفكف من ردنيه، وتقدم نحو غوار، أمسك به من ياقة قميصه ثم رفعه واتجه به إلى باب الحافلة، وبدفعة واحدة في ظهره كان غوار خارج السياق كله، منبطحاً على الأرض والحافلة قد سارت، وهو يردد” “شو القصة، لك وينَاك”!

حالة هؤلاء المساكين ومواقفهم المضحكة تنعش ذاكرتي بمواقف مماثلة وقصص مشابهة وطرائف متنوعة وكثيرة. أكتفي بموقف واحد لهم ومثل مشابه.

هؤلاء كي يتستروا على عقمهم الفكري، ويعوضوا عن فقرهم المدقع من أي مشروع واقعي يجنحون إلى شغل الوقت والجمهور برصد أية حركة أو فكرة جديدة، ليعارضوها ويبطلوها. متوهمين أن إلصاق التهم بها وتخوين أصحابها كافٍ لجعل الجمهور يصدق دعاواهم، وينظر إليهم على أنهم وحدهم حماة الحمى، وغيرهم ليسوا سوى لعب ودمى تحركهم أيد خفية ومؤامرات خارجية. اللهم – للإنصاف – لديهم دليل واحد هو ما يسمونه (الثوابت). فيقولون: هذا مخالف للثوابت. بمعنى أنه ليس من تفسير للمخالف سوى العمالة والخيانة! وما الثوابت التي يحتكمون إليها – في العموم – سوى أفكار وتواضعات هم اخترعوها أو وجدوها فتبنوها على أنها ثوابت لا تقبل التغيير ولا التعديل حتى لو دلت الدلائل كلها على بطلانها من الأصل، أو أن الزمن والظرف قد تجاوزها. وأعطوها من القدسية ما لم يعطوه لنصوص الوحي، فقد رأيناهم يلتفون عليها بالتأويل الممجوج كلما اعترضت (ثوابتهم)، مع أن كثيرين من هؤلاء ذوو عناوين (إسلامية)!

تذكرني (ثوابتهم) هذه بجحا – رحمه الله وأسكنه فسيح جناته – يحكى أنه مرّ يوماً بقرية فسألوه: كم عمرك؟ فقال: أربعون سنة. وبعد عشر سنوات مرّ بالقرية نفسها مرة أُخرى فسألوه: كم عمرك؟ فأجاب: أربعون سنة! نظروا إلى جبته ولحيته وعمامته وعجبوا! قالوا له: يا شيخ! لعلك غلطت؟ فنحن قبل كذا وكذا سألناك فأجبت الجواب نفسه! فما كان من جحا- بعد أن مسّد لحيته، ومسح أردانه – إلا أن قال: أنا كلمتي واحدة، فالرجل لا يغير كلمته!

رحم الله جحا.. ورحم الله جعفر المجنون. وأقول لهم وهم في أجداثهم يرقدون:

ناموا مطمئنين.. لا تخافوا ولاتحزنوا؛ فالذي (خلّف ما مات).

وندعو بالعقبى لغوار.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى