التفكير الأُحادي والنموذج التركي
د. طه حامد الدليمي
من الأمثلة الحيوية على التفكير الأُحادي موقف الكثير من الجمهور (الإسلامي) من الحكومة التركية الحالية بقيادة حزب (العدالة والتنمية) الذي يرأسه الأستاذ رجب طيب أردوغان.
ليس من الصعب على كل متابع للشأن التركي أن يدرك أنّ السياسة التركية سياسة قومية تنظر إلى مصلحة تركيا أولاً، وتتعامل مع الدول والمنظمات على هذا الأساس دون تفريق بين إيران ومصر – مثلاً – أو الشيعة والسنة.
سياسة تفهم النفسية العربية التي تستهويها المواقف الحماسية ولا تغوص كثيراً فيما وراء ذلك. فغضب أردوغان في مؤتمر (دافوس)، ومغادرته مكان الاجتماع أخذ حيزاً كبيراً من الصحافة والإعلام العربي، واستهلك من المشاعر العربية ما يعادل إعصار (تسونومي)! مع أن غضب الرجل كان بسبب مقاطعة كلامه وعدم منحه الوقت المناسب، وليس من أجل فلسطين ولا شيء من ذلك، سوى أنه قارن بينه وبين الرئيس الإسرائيلي شمعون ببيريز فيما يخص الوقت. وقد ظهر الرجلان يجلس أحدهما إلى جوار الآخر، وهو غير مقبول جماهيرياً لو فعله مسؤول عربي مثلاً. لكن الجماهير نفسها بلعت الصورة وعكست الأمر مع المسؤول التركي، وفسرته لصالحه إلى أبعد الحدود. ولم ترد أن تفهم أن المجاورة في المجلس دليل الصداقة. ونسيت أو تناست أن الرجل زار (إسرائيل) أكثر من مرة، وهو صاحب الملف الإسرائيلي في المنطقة، وعن طريقه تمر كل القضايا العالقة والمتعلقة بهذا الملف. وهو الذي سعى لعقد المصالحة والعلاقة الدبلوماسية بين باكستان و(إسرائيل). كما نسيت هذه الجماهير أو تغافلت عن أن محمد أنور السادات قتل على ما هو دون ذلك!
قد يفهم القارئ أنني عاتب في ذلك على إخواننا الأتراك، أو أحملهم مسؤولية غير عادية؛ من حيث أنهم مسلمون أو يمكن اعتبارهم (إسلاميين).
الحقيقة أنني عاتب علينا! معترض على تفكير كثير من نخبنا، مستهجن مواقفها ومواقف جماهيرنا. أما الأتراك أعضاء حزب (العدالة والتنمية) فهم منطقيون في التعامل مع (الأشياء). صرحاء في التعبير عن أنفسهم وسياستهم. فهم – إلى اللحظة – لم يدّعوا لأنفسهم أنهم (إسلاميون)، بل يصرحون بأنهم علمانيون، وإن كانوا مسلمين ملتزمين بشعائر الإسلام، يحبون المسلمين و(يتعاطفون) معهم، ويحبون الإسلام ويسعون إلى نشره.
نعم هم ينحدرون من حزب إسلامي.
لكن هذا الانحدار لا يؤهل المنحدرين منه لأن نَصِفهم بوصفه، ما دام أنهم تخلوا عن الالتزام بعناصر (إسلاميته)، ويعلنون بعلمانيتهم. علماً أنهم اختلفوا مع مؤسس ذلك الحزب أستاذهم البروفيسور نجم الدين أربكان رحمه الله تعالى، واختلف معهم حتى اتهمهم – محقاً أم غير محق – بأنهم عملاء للصهاينة!
نحن – بثقافتنا الأُحادية – غير المنطقيين لا هم.
ونحن الذين نتمتع بـ(موهبة) عجيبة في الخضوع للآيدلوجيا أو الفكرة المسبّقة و(عشو نهاري) عن رؤية الواقع، ولجاجة نحسد عليها في إخضاع هذا الواقع وتمويهه وفهمه بمقتضى الفكر المسبّق لا الحال المحقق! أي ما نريد لا ما نرى. وهي حالة مرضية تسمى في علم النفس بـ(التفكير الارتغابي Wishfull Thinking).
من أحاديث المجالس
قد يجرنا الحديث في بعض المجالس إلى هذه النقطة، فأذكر هذا الرأي كله أو بعضه. لكن ما من مرة تحدثت بهذا حتى أجد من ينبري لي مادحاً رئيس الوزراء رجب أردوغان، معدداً محاسنه متوهماً أنني أذمه أو أشتمه، أو أن بيني وبينه مشكلة! وأجد صعوبة كبيرة في إقناعه بأنني لم أقصد ذلك في كلامي، بل أنا معه في سياسته القومية، فالدول ليست جمعيات خيرية تقدم إحسانها دون مقابل. والسياسة أم المصلحة، وهذا شيء طبيعي لا غبار عليه. لكنني أرد على الفهم القاصر الذي يبني أوهاماً على هذه الدولة أو تلك، وينتظر التغيير أن يأتي من الخارج، ويتوهم أن تركيا تقدم خدماتها للدول العربية أو الإسلامية حسب الطلب؛ كـ(فاعل خير)، سواء رجعت هذه الخدمات على تركيا بالفائدة أم لا!
هذا فهم ساذَج للسياسة.. قاصر عن معرفة الخريطة المتحركة لها.
يتصور هؤلاء أن النظام التركي الحالي نظام إسلامي، وأن حزب (العدالة والتنمية) الحاكم حزب إسلامي بحت. فإذا قلت له: إن هذا التوصيف غير دقيق. فكأنك طعنت الحركات الإسلامية كلها، بل شككت في المشروع الإسلامي برمته. وأجهد نفسي حتى أُفهمه – وقد لا يفهم – أني لست في معرض ذم ولا مدح، ولا نحن بهذا المستوى! وإنما أريد وصف الأمر على ما هو عليه. بل أنا إلى المدح أقرب من الذم، بل لم أقصد الذم أساساً. وإذا طلبتَ رأيي بتجرد أقول: إن النظام التركي اليوم نظام محترم، وهو خير من كثير من أنظمة المنطقة، بشرط أن لا نخطئ في وضع العنوان، ولا نضع له من العناوين ما لم يضعه هو لنفسه!
عنوان ولا كالعناوين
السبب الذي أستند إليه جوهري وخطير؛ فنحن بصدد وضع عنوان ليس كالعناوين، عنوان إسلامي أول لوازمه مطابقته للوحي الرباني؛ فالدين حمى الرب التي ليس لنا أن ندخلها إلا بإذنه. ليس الدين ملك أبي وأمي حتى أتصرف به حسب الحال والمصلحة. أما أن النظام التركي ذو نوايا سليمة وأنه يداري الوضع العالمي ويريد التغيير شيئاً فشيئاً، فهذا لا نريد أن ننفيه عنه، بل هو وارد. لكن يبقى اجتهاداً دون مستوى أن يمنح صفة (إسلامي). والأهم منه هل تصح هذه السياسة شرعاً أم لا تصح؟
القضية ليست بهذه السهولة، بل تحتاج منا اطلاعاً دقيقاً على تعريف الحزب لنفسه في نظامه الداخلي، وغيره من المصادر الذي يمكن اعتمادها لمعرفة هويته التي هو يعلن عنها أنها علمانية. والسيد رجب أردوغان قال عند تأسيس حزب (العدالة والتنمية): “سنتبع سياسة واضحة ونشطة من أجل الوصول إلى الهدف الذي رسمه أتاتورك لإقامة المجتمع المتحضر والمعاصر في إطار القيم الإسلامية التي يؤمن بها 99% من مواطني تركيا”. وهذه علمانية بحتة لا غبار عليها، كتب شبلي العيسي كتاباً للدعوة إليها اسمه (العلمانية والدولة الدينية)، ينصر فيه الفكرة القائلة بتطبيق قيم الإسلام لا شريعته، وهو ما آلت إليه عموم الأحزاب والجماعات (الإسلامية) ومنهم (الإخوان المسلمون) وحزب (النهضة) التونسي والحزب الإسلامي في العراق والأحزاب والفصائل المشابهة كحماس وغيرها. وعلى هذا الأساس فإن من الخطأ الكبير والخطير أن نتصور أن الأحزاب التي وصلت إلى السلطة في بعض الدول العربية بعد الحراك الشعبي في الأخير، هي أحزاب إسلامية، وأن الإسلام هو الذي يحكم.
كل هذا ومحدثي لا يقتنع. فأقول له: يا أخي! أنا مع التجربة التركية ومعجب بسياسة حكومتها، لكن لست ممن يؤمن بأحد اللونين دون عداهما. وإلا جعلتم من القائمين عليها أحد شخصين: إماماً معصوماً أو شيطاناً رجيماً: إن مدحتهم فلا يُسمح لي بنقدهم، وإن نقدتهم فهذا معناه أنني ألعنهم! هذا منطق عجيب!
أنا كمسلم لا أحمل الإسلام مسؤولية هذه التجربة: لا سلباً ولا إيجاباً، ولا أجيز لنفسي شرعاً وصفها بـ(الإسلامية) التي أول ركن من أركانها التحاكم إلى شريعة الإسلام، وإن كنت أمدح أصحابها وأحبهم لحرصهم على نشر الإسلام بين أفراد المجتمع التركي كتدين عام (في إطار القيم الإسلامية)، وغيره من الحسنات التي منها أجواء الحرية السياسية التي ينعم بها الشعب ويلمسها ويستفيد منها كل زائر لتركيا.
كعراقي سني
وكعراقي سني فلي موقفي من السياسة التركية تجاه سنة العراق: وهو ليس ذماً بإطلاق ولا رضىً بإطلاق. بل أمتدح موقف تركيا كبرلمان، لا كحكومة، من الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003؛ لأن موقف الحكومة التي ترأسها أردوغان في آذار/2003 كان مع تأييد طلب دخول القوات الأمريكية إلى العراق من الأراضي التركية، وحاولت جهدها ذلك، ولكن البرلمان والشعب أصر على الرفض. ولا ينبغي خلط الأوراق ونسبة الفضل لحكومة حزب (العدالة والتنمية) الذي كان مع الرغبة الأمريكية تماماً، وقام بطرد ثلاثة دبلوماسيين عراقيين، واستقبل وزير الخارجية عبد الله غول يوم 2/4/2003 وزير خارجية أمريكا كولن باول، وما زالت ذاكرتي تحتفظ بصورته وهو يتلقاه بالأحضان وعلى وجهه ابتسامته العريضة المعروف بها، في وقت كانت بغداد الرشيد تقصف بالقنابل وقوات بدر طلائعها بدأت بالتسلل إلى مدن العراق!
المشكلة المزمنة أن أصحاب (التفكير الأُحادي) لا يمكن أن يجمعوا بين أن تحب أو تمدح جهة أو شخص من وجه وتذمه من وجه!
وكعراقي سني أيضاً أذكر كيف زار أردوغان قبل حوالي عام ونيف العراق وذهب إلى السيستاني، وعقد عقود الاستثمار في المناطق الشيعية. وقبلها استقبل مقتدى الصدر الذي منحته تركيا (200) مئتَي مقعد دراسي لأتباعه في جامعاتها. وقبلها دافع مع فنزويلا عن برنامج إيران النووي، وغير ذلك. وهذا كله ضد مصلحتي. ثم عرفت كيف أن إيران لم تحتمل هذا الوجود التركي في العراق فبادرت حكومة المالكي إلى مضايقة الشركات الاستثمارية التركية وغلق أبواب معظمها، بل عرقلت مرور الشاحنات إلى الخليج عبر العراق. وأفهم كيف أن هذا الموقف دفع تركيا لتشجيع الفدرالية عندنا؛ وذلك لضمان وجود مناطق حاضنة للاقتصاد التركي.
المفاجأة…….. التي لا يستوعبها العقل الأحادي هي………………………….. أنني أعذر الأتراك، ولا ألومهم. إنما ألوم الثقافة الأحادية التي تتوهم أن الحكومة التركية إسلامية أو تختزن الإسلامية ضمن خطة محسوبة؛ فهي لذلك (جمعية دينية) لرعاية (أيتام) العراق. ولا تستوعب أنني بهذا ألومها ولا ألوم الأتراك. بل أدرك تماماً أن هؤلاء سياسيون ناجحون يعملون لبلدهم، وليس لي من حق عليهم. بل عليّ واجب هو أن أتكون وأوجد لي كياناً محترماً يجبرهم وغيرهم على أن يغيروا (طريق الحرير) من النجف إلى الأنبار.