مقالات

التفكير الأُحادي وحكومات الربيع العربي

د. طه حامد الدليمي

(التفكير الأحادي) هو أحد مشاكلنا الفكرية المزمنة التي تتوطن الذاكرة العربية. ذلك التفكير المحدد بخطوط مستقيمة ترسم بحدية لا تقبل التداخل أو التعرج، وبلونين اثنين عصيين على كل مراودات التعدد والتدرج.

إذا قلت، مثلاً : اتفقت أمريكا وإيران على احتلال العراق، أشكل عليه اختلافهما على ملفات أخرى كالملف النووي.

وإن قلت: “حزب الله” حزب شيعي طائفي، عميل (لإسرائيل) يحمي حدوده الشمالية ضد المقاومة السنية: اللبنانية والفلسطينية قال لك: فكيف قاتلهم في تموز/2006؟

من قال: نفاوض الأمريكان فهذا يعني أنه ضد المقاومة. وإذا كنت من حملة السلاح فلا يحل لك الجلوس مع المحتل. مع أن أحد الأمرين لا يتم إلا بالآخر، وأن طاولة المفاوضات لا بد منها لإجراء حسابات الميدان.

مقولة “الحل الوحيد” مثال واضح على أحادية التفكير. فمنهم من يقول: المقاومة هي الحل الوحيد، وما عدا فهباء وسدى. ومنهم من يعكس الأمر فيصر على أن السياسة هي الحل الوحيد، وآخرون يرون أن الدعوة والتربية وتأهيل الذات هي ذلك الحل الذي لا حل غيره.

قسّم بعضهم الشعب العراقي إلى قسمين: قسم مناهض للمحتل، وهؤلاء لا بد أن يكونوا غالب الشعب وبصورة – شئتم أم أبيتم – عابرة للطوائف الدينية والقومية، وقسم خادم للمحتل.

تفكير متناقض، تشعر أحياناً أنه يلعب على كل الحبال: فمرة هو وطني وإن خالف الدين، ومرة هو ديني متى ما وجد الدين (خادماً) لفكرته. ينقض كلام الآخرين بأشياء، ثم لا يلبث أن ينسى فتتسرب تلك الأشياء أو ما هو أشد منها إلى كلامه. قبل يومين كنت أشاهد حواراً بين اثنين على إحدى القنوات الفضائية العراقية: أحدهما شخصية إعلامية كبيرة وقديمة، والثاني شيخ من شيوخ عشائر الأنبار. قال الأول وهو يفند مشروع الأقاليم: ماذا يملك أهل الأنبار من قوة لفرض الأمر على الحكومة؟ وبعد أن أجاب الضيف الآخر أن لديهم كذا وكذا من عناصر القوة، سأل مقدم البرنامج الضيف الأول: ما هو مشروعكم البديل؟ فأجابه: حل الحكومة وإعادة الأمور كما كانت عليه في عام 2003. فسأله: وماذا تملكون من قوة لإجبار الحكومة على الانصياع لما تريدون؟ فإذا هو يعدد من القوى وووسائل الضغط والتأثير ما يهزم به أكبر قوة في العالم!

بعضهم كان يقول المشكلة في المحتل الأمريكي فإذا رحل رحلت معه مشاكل العراق وعاد العراقيون إخوة بعد أن فرقهم الاستعمار ودق إسفين الطائفية فيما بينهم. وهناك من يلقي باللائمة كلها على إيران التي فرقت (الشعب) المتصاهر ذي النسب الواحد.

وهناك اليوم من العراقيين من ينتظر التغيير القادم من سوريا، وهو قاعد بلا حراك.

وهذا كله بسبب “التفكير الأُحادي” الذي ليس لديه سوى مقياس واحد للحالة، وزاوية واحدة للنظر، ولون واحد للأشياء، وحل واحد بسيط لمشاكل معقدة. لهذا يعارض البعض الفدرالية بسبب اقترانها بمشاكل كالمناطق المتنازع عليها، أو عدم موافقة الحكومة، وكأن حل المشكلة يجب أن يكون حلاً بلا أدنى مشكلة!

وتنظر إلى المفكرين العرب فتجد بعضهم يخبط خبط عشواء فيسلك ما حدث ويحدث في تونس وليبيا ومصر واليمن ومعها سوريا في سلك واحد مع ما يحدث في البحرين والعراق دون النظر في خصوصية الحالة، فـ(المظلومية) الشيعية آيدلوجيا وليست واقعاً! وإزاحة المالكي لا يغير من الوضع العراقي شيئاً؛ لأن الشعب العراق منقسم على نفسه انقساماً تاماً. فالشيعة لا يريدون إسقاط المالكي وإنما تشغيل العاطلين وتحسين الخدمات، وإن أرادوا ذلك فلكي يحل محله واحد منهم هو أظلمُ وألعن! وهم اليوم الأقوى في ساحة الأحداث؛ فما للسنة ولهم؟!

ماتَ في القريةِ كلبٌ فاسترحنا من عُواهُ

خلّفَ الملعونُ جرواً فاقَ في النبحِ أباهُ

أحدهم يرسل هذه الكلمات: “يا إخواني اهل السنة في العراق! أنتم من مكن للروافض أن يرتقوا على صدوركم ويقتلونكم قتل عاد وإرم. ألستم من قتلتم المجاهدين؟ أليست الصحوات من أبنائكم؟ (وظل يعدد ويعدد حتى قال) أقولها وفي الفم مرارة فيكم يا أهل السنة خونة يبيعونكم في بازار النخاسة بأبخس الاثمان”. ونسي أن المجاهدين هم من أبناء السنة، وأن كل مجتمع وقطر ودولة فيها “خونة يبيعون أهلهم في بازار النخاسة بأبخس الاثمان”. وأضيف: لو تعرض غير سنة العراق لما تعرضوا له من حيف وظلم وخذلان واجتماع الأعداء وتعدد العدوان لذاب وتلاشى وصار في خبر كان!

حكومات الربيع العربي

الحراك العربي كله على بعضه وبالمجمل جيد، وهو أفضل من السكون السابق. ولكن لا يعني هذا أننا نقف منه موقف المادح الذي لا يرى فيه إلا ما هو إيجابي جميل، أو القادح الذي لا يهمه أن يرى منه إلا ما هو سلبي قبيح.

أول ملاحظاتنا على هذا (الربيع) أن الشعارات المرفوعة من قبل (الإسلاميين) أو من يبدون كذلك ممن هو أقرب إلى (الإسلاميين) كحزب النهضة التونسي، ليست تحكيم الشريعة الإسلامية، وإنما الحرية والعدل والاقتصاد. وعلى هذا الأساس لا يصح أن تنظر الجماهير إلى الجماعات التي وصلت إلى الحكم أو ترأست الحكومة في تونس وليبيا والمغرب ومصر([1]) على أنها جماعات إسلامية ستطبق برنامجاً سياسياً ذا مرجعية إسلامية منضبطة بضوابط الشرع، ولا هي ادعت لنفسها هذا الشرف. قد تستثني منهم جماعة (النور) السلفية في مصر. ولكن مجيء ترتيبها ثانياً بعد (الإخوان) لا يؤهلها لأن تنفذ ما تريد، وفي رأيي أن تجربتها السياسية تحتاج إلى زمن لتنضج خارج نطاق ممارسة الحكم حتى لا تتورط في أخطاء كبيرة تحسب عليها، وتكون عاملاً منفراً عنها وعن المشروع الإسلامي برمته. فكان الأولى أن لا تزج نفسها في معترك الحكم. ومع هذا أقول: لست أعلم بشعاب مصر من أهلها.

لاحظنا منذ بضع سنين أن أغلب الأحزاب ذات الصبغة الدينية تريد مسك العصا من الوسط، وتنظر بعين إلى الغرب، والعين الأُخرى إلى الشعب. وتقليب النظر فيما يحدث، والتركيز على إشارات وتصريحات معينة يجعل الناظر يصل إلى أن أغلب هذه الأحزاب اتفقت – كما يبدو – مع القوى العالمية على جملة مبادئ منها ما هو مناقض لشعاراتها السابقة، ومضادد للإسلام في الصميم؛ ثمناً للقبول بوصولها إلى سدة الحكم، أهمها: التنازل عن المرجعية الدينية، وتبني لعبة الديمقراطية وتداول السلطة، وأمن إسرائيل، ومصالح أمريكا والغرب.

سأل أحدهم وهو يلاحظ التغييرات الجديدة في المنطقة العربية: كانت أمريكا والدول الكبرى تحرص على إبعاد الجماعات الدينية عن السلطة، وكانت الأحزاب الإسلامية تشكو من ذلك وأن دول الاستكبار العالمي وراء مطاردتها من قبل الحكام وحرمانها من الوصول إلى السلطة، فما الذي حصل أخيراً: هل تغيرت أمريكا؟ فأجابه أحد الجالسين رجل شبه أمي: لا بل هذه الأحزاب هي التي تغيرت. فضحكنا وقلت له: صدقت!

ومن ملاحظاتنا على الحراك العربي أن الجماهير تحركت بطريقة شبه عفوية، وأن المحرك كان يختبئ وراء مواقع التواصل الاجتماعي، وكانت القيادات التقليدية من الأحزاب والجماعات والهيئات مذهولة مما يحدث، تنظر إليه بحذر تقدم رجلاً وتؤخر أخرى. حتى إذا تبين لها أنها في طريقها لتحقيق أهدافها رغم ما يفعله الأمن والعسكر بها، تقدمت لتقود الجمهور الهائج. ونرى أن نوعاً من السرقة لجهود الجماهير الثائرة قد حصل، وربما كان شيء من المسروق لحساب جهات خارجية. وهذا كله لا ينفي أن الحاصل هو أفضل بكثير مما كانت عليه الأوضاع من قبل.

الملاحظة الأقوى أن الدول التي تغيرت فيها الأنظمة ما زالت تعيش – بنسبة أو بأخرى -فوضى اجتماعية وقانونية. فهل يراد لها أن تكون (حالات عراقية) مصغرة لإضعافها والسيطرة على قراراتها وثرواتها؟ فكم ستدوم هذه (الحالة)؟ ومن هو المريد؟

أرجو أن يعلم القارئ أن كلامي هذا ينطلق من زاوية حيادية، يصف الحالة فحسب، خال من مقصد الجرح والمدح. وإن كان (الفكر الأحادي) لا يحتمله. ولا أستبعد أنه سيجنح إلى تأطيره بنسبة صاحبه إلى عنوان حزبي أو اتجاه فكري معين من هذه الاتجاهات التقليدية التي تتسيد الساحة. وعنونة الأشخاص إحدى علل هذا التفكير الأعور.

تلك قصة أُخرى. ربما نرويها لكم إن أسعفنا القدر، وسمحت لنا بذلك الأيامُ.

________________________________________________________________________________

  1. – الوضع في اليمن غير واضح بالنسبة لي من هذه الناحية.
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى