مؤسسة (راند) الأمريكية (2)
د. طه حامد الدليمي
طال الأمد فحصل الأَوَد
الظاهر من هذا كله أن الجماعات والأحزاب (الإسلامية) – وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين – وصلت إلى قناعة تامة – بعد تكرر الإحباطات وطول التجربة – أنه لا يمكنها الوصول إلى السلطة دون إذن من القوى العالمية. فصاروا يبحثون عن الشروط المطلوبة للقبول من أجل الحصول على هذا الإذن – ويعتبرون ذلك ذكاءً سياسياً – فوجدوا أن على رأس هذه الشروط القبول بفكرة الديمقراطية ومبدأ تداول السلطة، ورفض العنف (الذي هو الجهاد بالمصطلح الشرعي، لكنهم يسمونه بغير اسمه حذراً من تحسس ويقظة الجمهور)، إضافة إلى التفاهم على مصالح أمريكا والغرب في المنطقة. ويحضرني هنا ما جاء في اللقاء الذي سبق ذكره مع الشيخ راشد الغنوشي على قناة الجزيرة أعلن فيه صراحة أنهم حسموا أمرهم وقرروا تبني مبدأ الديمقراطية دون قيد، ورفض العنف بإطلاق. إذ جاء فيه ما نصه: “تبنينا الديمقراطية تبنياً كاملا بدون تحفظ، ورفضنا للعنف رفضا كاملاً، وقبولنا بالاحتكام لصناديق الاقتراع بدون تحفظ على أحد حتى أن سألنا الصحف في ذلك الوقت لو أن صناديق الاقتراع أفرزت فوز الحزب الشيوعي اللي هو النقيض العقائدي لكم ماذا تفعلون؟ قلنا ليس أمامنا إلا أن نحترم إرادة الشعب وليس شيء غير ذلك رغم أنه حُمِل علينا إسلاميا لهذا الجواب ولكننا ظللنا مصرين عليه”.
وحتى يجدوا مخرجاً من التناقض الواضح بين هذه الشروط المطلوبة ضرورة وبين الشريعة التي ينادون بتطبيقها توصلوا إلى حل وسط لغرض الاستهلاك الداخلي، هو أننا نعلن القبول بهذه الشروط اضطراراً ومخادعة للطرف الآخر ريثما نتمكن من زمام الأمور، وعندها نعلن عن مقاصدنا ومبادئنا الحقيقية.
فعندما تسألهم عن سر إعجابهم بأردوغان وتجربته التركية وإضفاء وصف (الإسلامية) عليها رغم أن (رجب طيب أردوغان) يعلن صراحة أنه علماني لا إسلامي؟ يجيبونك دون تردد بالجواب المتفق عليه: هذا هو ظاهر الأمر، بينما الحقيقة أن الرجل قد أطلق يد القوى الإسلامية لتعمل من أجل نشر الفكرة الإسلامية، وعندما يأتي الوقت المناسب سيعلن عن الدولة الإسلامية.
الوقوع في الفخ
لقد وقع (الإسلاميون) في أكبر فخ نصب لهم واستدرجوا إليه! والسؤال الذي يطرح نفسه: متى تمتلكون القوة التي بها يتحقق التمكين لتعلنوا دولتكم الموعودة؟ ومن دون تحديد سقف زمني – ولو تقريبي – يظل الزمن مفتوحاً إلى ما لا نهاية، وتتكرر الفترات التي يقولون فيها: “المرحلة غير مناسبة للإعلان” دون انقطاع، كلما مرت فترة تجددت أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية!
وتكون (الدولة الإسلامية) الموعودة مثلها كمثل (المهدي) الذي ينتظره الشيعة جيلاً بعد جيل؛ لأن الزمن أمامه ظل مفتوحاً لم يحدد بسقف معين. وبهذا فأنا أطمئن (الإسلاميين) قائلاً لهم بكل ثقة وجزم: إن دولتكم هذه لن تجيء إلى يوم القيامة! وقد نفضنا أيدينا منها كما نفضناها من كل مهدي مزعوم وسراب موهوم.
لم ينتبه (الإسلاميون) – وهم في غمرة هذا التذاكي – إلى حالة نفسية في منتهى الخطورة وهي: أن من طبيعة النفس البشرية أنها متى ما تبنت مقولة وظلت ترددها فإنها ستصدقها بعد فترة من الزمن وتتبناها حقيقة حتى وإن لم تكن جادة في طرحها أول مرة. أضف إلى ذلك أن جبلاً كثيراً من الأتباع سيصدقها بفعل التكرار، ويطورها لينحدر بها أكثر، ويقطع بها خطوات إلى الأمام ربما لم تكن في بال من طرحها أول مرة، ويبدأ بالبحث عن مبرراتها ودلائل صحتها. ولنا في قصة عبادة قوم نوح للأصنام دليل. ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) قال: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم، عبدت).
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي رحمه الله في كتابه (التوحيد الذي هو حق الله على العبيد) تعليقاً على الحديث: قال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. فيه مسائل (نقطف منها):
- أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل، فالأول: محبة الصالحين، والثاني: فعل أناس من أهل العلم والدين شيئاً أرادوا به خيراً، فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره.
- جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه، والباطل يزيد. (قلت: تأمل هذه الفائدة الجليلة! وعلاقتها بالحالة).
- فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدعة سبب الكفر.
- معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة ولو حسن قصد الفاعل.
ثم إن هذا الطرح لن يكون في ساحة خالية من الأعداء، ولا أن اللعب كان من البداية مع خصوم بلهاء لا يدركون مقاصدهم، وليسوا هم من السهولة بحيث يمكن خطف الثمرة منهم بهذه الطريقة الساذجة. وهنا يأتي السؤال: من يستدرج من؟ ومن هو الرابح في النهاية؟ وهل الصغار قادرون على اللعب في ساحة الكبار والانتصار عليهم في أرضهم وبين جمهورهم؟ لا شك أن هذا وهم وخيال وأماني كان القرآن العظيم حاسماً في موقفه منها من أول لحظة: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) إلى قوله تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرون:1-6). (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً) (الإسراء:73-75). وغيرها من الآيات التي تبين أنه لا يمكن الالتقاء مع الباطل في حلول وسطية. وأنه ليس هذا هو الطريق.
إن اللاعبين الكبار يلزمون الصغار باستحقاقات ملموسة لدعواهم تجعلهم يفتشون عن مسوغات شرعية يقنعون أنفسهم بها للاستجابة لتلك الاستحقاقات، ولإقناع أتباعهم بصحة ما يفعلون. كما أن طول المعايشة مع الخصوم والاحتكاك بهم وسماع حججهم، مع الضغوط التي يولدها الواقع كل هذا يلقي بثقله ليغير من قناعاتهم، وشيئاً فشيئاً يبدأون بالتبني الحقيقي لما قالوا عنه في البداية إنهم لجأوا إليه من باب الاضطرار لا من باب التبني المبدئي. وفي النهاية يصدقون كذبتهم من طول ما رددوها. والواقع شاهد: فقد رأينا رؤوس الحزب الإسلامي وجماعة الإخوان في العراق وصلوا إلى حد أن صاروا يجادلوننا علناً في أن العراق لا يمكن حكمه بالشريعة الإسلامية بحجة أن فيه طائفتين أصولهم وفقههم مختلف تماماً؛ فعلى أي شريعة يمكن حكم العراق؟ إذن العلمانية هي الحل، والديمقراطية هي الوسيلة، وتداول السلطة هو سبيل السلام في بلد مثل العراق.
وهكذا – ولله الحمد – بعد كل تلك الجهود والمصادمات والأثمان والخصومات وصلنا أو رجعنا إلى مقولة حزب البعث وصدام حسين التي كان يرددها! فما عدا مما بدا؟!
ولا أملك هنا إلا أن أرفع يدي بالتحية لإسلاميينا العظماء على هذا (الإنجاز العظيم) الذي أوصلونا إليه! ولا عجب؛ فقد قال الحكماء من قبل: “العاقل يبدأ من حيث انتهى العقلاء”.
ومن شواهد بطلان هذا الأسلوب الملتوي في الوصول إلى الهدف أن قادة الحزب الإسلامي قالوا لنا: دخلنا العملية السياسية مضطرين من أجل أن نعرف ماذا يدور في أروقة السياسة من أمور، وماذا يبيتون لنا من مؤامرات؟ ومن أجل أن نحصل على ما نستطيع الحصول عليه من مصالح، ودفع ما يمكن دفعه من مفاسد. ثم لم تمر فترة سنة أو سنتين حتى صدقوا الكذبة خصوصاً بعد أن صاروا جزءاً من الحكومة؛ فأمسوا يطالبون الناس باستحقاقات السلطة كغيرهم من مسؤولي الحكومة إلى حد أنهم صاروا يشنون العمليات العسكرية ضد مدنهم السنية كالموصل وديالى والأنبار عن طريق الجيش والشرطة والقوى الأمنية الأخرى التي يغلب عليها الشيعة ويقودونها علناً ويطالبون الحكومة بها، رغم أنها تنفذ دون تفريق بين قاتل مفسد قاطع للطريق، وبين مقاوم نظيف اليد من دم ومال الأبرياء من مسلمين وغيرهم من المدنيين والعسكريين! ولك أن ترى المجاميع العسكرية الشيعية كيف – بعد انتهاء كل عملية – يؤدون دبكات النصر على الطريقة (الشروكية): لتعرف الرابح الأكبر، وفي مصلحة من هذا الذي يجري باسم القانون! وأخطر القرارات المصيرية التي أضرت بالبلد مثل الدستور والاتفاقية الأمنية مع أمريكا وغيرها اتخذت وبتوقيعهم! ناهيك عن الإعدامات التي تطال كثيراً من الأبرياء والشرفاء، وهي – حسب علمي – لا تنفذ إلا بتوقيع مجلس الرئاسة الثلاثي، الذي يضم في عضويته واحداً من الحزب الإسلامي!
وهكذا بدأ الإخوان دعوى الديمقراطية هواة لاعبين وانتهوا دعاة لها محترفين. وهذا مخالف بالضد تماماً للأساس الذي انطلقت منه دعوة الإخوان الأولى بقيادة الشيخ حسن البنا رحمه الله.
ولهذا أقول: إن الإخوان المسلمين المتأخرين أو (الإخوان الجدد) غير الإخوان المسلمين الأولين. هذه نقطة جوهرية في غاية الأهمية! ينبغي أن لا نخلط بين الفريقين، وأن نفصل بين هؤلاء وأولئك عند توجيه النقد، حتى نكون منصفين.