مقالات

ثورات الربيع العربي

محاولــة لفهــم مـــا يجــري

د. طه حامد الدليمي

كثيراً ما يعوزنا الرجوع إلى جذور الحدث، لمعرفة ماهيته، وأهدافه، والخيوط التي تحركه.

في خريف سنة (2005)، ومن خلال القراءة والتتبع، وبسبب من المواقف الصادمة لعموم (الإسلاميين)، الذين كنا نقرأ أفكارهم ونأخذ عنها صورة مغايرة لتلك المواقف، تعتمد على تنظيرات وأدبيات لهم مرت عليها بضعة عقود، وما زالوا يرددونها رغم أن كثيراً من تلك الأفكار تغيرت في السر عما كانت عليه، أو جرى التعبير عن ذلك التغيير لكن دون ضجة أو لفت للانتباه. في تلك الفترة توصلت إلى نتائج فسرت لي بعض ما كان يجري، وما زال، على الساحة (الإسلامية)، واكتشفت أن تبدلاً كبيراً قد حصل!

وأهم أمرين صادمين بالنسبة لي هما أهم أمرين كان (الإسلاميون) يعتمدون في تكوينهم وتثقيفهم عليهما: الحاكمية والجهاد. أما الحاكمية فهي الأساس الذي قامت عليه التنظيمات (الإسلامية)، وأما الجهاد فكان أنشودة كتائبهم وأُسَرهم. وكان الموقف من الاحتلال الأمريكي هو الضوء الكاشف، والمهماز الذي أسرع بتفكيري للوصول إلى الحقيقة التي كانت خافية عليّ.

ومع الاحتفاظ بشيء من الاستثناء توصلت إلى ما يلي:

نتيجة لطول الأمد، والمآسي التي تلقاها (الإسلاميون)، والقناعة بأن شيئاً ما لن يحدث دون موافقة (الغرب). هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن (الغرب) قد نفض يده من الأنظمة العلمانية الحاكمة، وقدرتها على استيعاب الموجة الدينية التي تعم المنطقة، وخوفاً من وصول من يسمونهم بـ(الأصوليين) إلى سدة الحكم، فكان أفضل ما توصل إليه من حل واقعي هو البحث عن (إسلاميين) مدجنين وإصالهم إلى السلطة بطريقة يمكن بواسطتها التحكم بوجودهم فيها، بحيث يمكن إزاحتهم في اللحظة المطلوبة. وهكذا حصل تناغم، جرّ إلى تقارب، ثم اتفاق بين الطرفين (لا يشترط أن يعلم به الجميع، أو يوقع منهم جميعاً) يصل على أساسه أولئك (الإسلاميون) إلى مركز القرار بالشروط التالية:

1. ضمان المصالح الأمريكية والغربية في المنطقة، وعلى رأسها النفط.

2. ضمان أمن إسرائيل.

3. نبذ العنف (أي الجهاد).

4. تبني مبدأ الديمقراطية في الحكم، والقبول بتداول السلطة مع الجميع دون استثناء، بمن فيهم العلمانيون والنصارى والشيوعيون.

وبهذا تكون المرجعية علمانية بشرية، وليست إسلامية ربانية قائمة على تحكيم الشريعة.

وهذا ما أسماه (الغرب) بـ(الإسلام المدني أو الحداثي أو الديمقراطي أو الليبرالي)، وتحدثوا به صراحة، وسوقوا له، وشجعوا عليه، وأقاموا من أجله مراكز دراسات خاصة بهم، ومراكز أخرى أسسها المدجنون في عالمنا بدعم من الغرب.

مؤسسة راند RAND الأمريكية

http://www.voltairenet.org/IMG/jpg/es-rand390-2.jpg

يأتي على رأس تلك المراكز التي احتضنت مشروع الإسلام الليبرالي (مؤسسة راند) الأمريكية. وهي مؤسسة بحثية تابعة للبيت الأبيض([1])، يبلغ تمويلها (150) مليون دولار سنوياً. وتقاريرها معتمدة في توجيه سياسة الحكومة الأمريكية.

صدر عن هذه المؤسسة الأمريكية، فرع الدوحة، سنة 2003 قبيل احتلال العراق، تقرير تحت عنوان (الإسلام المدني الديمقراطي: الحلفاء، الموارد، الاستراتيجيات). وهو دراسة استراتيجية موجهة للإدارة في البيت الأبيض لكي تنفذها لمواجهة (الأصولية الإسلامية) من خلال تغيير المنظومة الإسلامية إلى منظومة إسلامية بالمفهوم الأمريكي للإسلام. كما تبعت ذلك التقرير عدة تقارير في السياق نفسه.

والتقرير المذكور أعدته الباحثة في قسم الأمن القومي شيرلي بينارد، زوجة السفير الأمريكي السابق في العراق زلماي خليل زاد؛ بناء على طلب من وزارة الدفاع الأمريكية. ثم قامت مؤلفة البحث بنشر ملخص لأهم نتائجه بعنوان “خمسة أعمدة للديمقراطية: كيف يمكن للغرب أن يدعم الإصلاح الإسلامي”، وذلك في ربيع عام ٢٠٠٤. وملخصه باختصار شديد أنه يرى في الإسلاميين الديمقراطيين حلاً لعلاج الأزمة الراهنة بين العالم العربي/الإسلامي والولايات المتحدة الأمريكية. وأن العالم الخارجي عليه أن يرعى ويدعم صيغة ديمقراطية للإسلام.

اطلعت على هذا التقرير في خريف سنة 2008، وتأكد لي ما استنتجته قبل أكثر من سنتين، من أن ما يجري لا يستبعد أن يكون تنفيذاً لما تم الاتفاق عليه مع الأمريكان لتمكين (الإسلام الليبرالي) في المنطقة. وبهذا وغيره يمكنني أن أقول إنني أدركت سر الوفاق بين الطرفين في العراق، ولماذا يجري التسويق للتجربة التركية من قبل (الإسلاميين) والعلمانيين على حد سواء، ويذهب (الإخوان المسلمون) بشبابهم إلى تركيا للاطلاع على التجربة والتشبع بمفاهيمها. وكتبت في ذلك فصلاً مطولاً عن (تقرير مؤسسة راند) ضمنته كتابي (منطق النقض).

يومها وجدت أننا مقبلون على صراع (إسلامي – إسلامي)، وأدركت أن الصراع بين العلمانيين والإسلاميين ما عاد هو الصراع الحقيقي، إن لم يكن هو أحد الأفخاخ التي تنصب لنا للوقوع في مصلحة المشروع الغربي!

محاولة لفهم ما يجري .. ليس إلا

أرجو أن يعلم القارئ أنني لست بصدد اتهام نية الطرف (الإسلامي)، فهذا أمر متروك لعلم الله تعالى. والإخوة الإسلاميون يبررون فعلهم بأن هذا هو ما يقدرون عليه في المرحلة الحاضرة، وأنهم يعملون على أسلمة المجتمع، ثم يترقبون الفرصة للعمل والحكم طبقاً لشريعة الإسلام. وهذا خير من أن يبقوا على هامش الحياة، يتحكمون بهم فسقة القوم.

لا شيء يدعوني لأن أكذبهم في زعمهم هذا، لكن الأهم من ذلك أمران: هل إن هذا يجوز لهم شرعاً؟ وهل هذا الطريق سيصل بهم فعلاً إلى الهدف المنشود؟

إنما أنا بصدد محاولة تفسير الأحداث، ولماذا تغيرت بوصلة الغرب بحيث صار يدعو إلى تغيير الأنظمة التي صنعها على عينه، ويصمها بالدكتاتورية، ويطالبها بالديمقراطية، بل ويشجع وصول الإسلاميين إلى رأس السلطة، بعد أن كان الإسلاميون أنفسهم يرون استحالة وقوع ذلك في يوم من الأيام!

أرجو أن يكون ما قلته قد سلط بعض الضوء على أبعاد ما زالت معتمة في مسيرة ثورات (الربيع العربي)، وهل هي عربية بامتياز؟ أم هي سائرة – دون أن تدري – في طريق مرسوم لها سلفاً؟ كما أرجو أن نكون قد وضعنا إصبعاً على سر من أسرار وصول حزب (النهضة) إلى الحكومة في تونس، و(الإخوان) في مصر، وحزب (العدالة والتنمية) في المغرب، وهو ما يجري التحضير له في سوريا اليوم!

ملاحظة/

أدعو بقوة إلى الاطلاع على تقارير (مؤسسة راند) على شبكة المعلومات!

_________________________________________________________________________________

  1. – أنشئت (مؤسسة راند) عام 1946 كمركز تطوير للمشاريع والبحوث العلمية والسياسية والعسكرية تابع للقوات الجوية في وزارة الدفاع الامريكية (البنتاغون)، لمساعدة المؤسسة العسكرية في معالجة التحديات الجديدة في مجالي الإرهاب والأمن القومي. ثم أُلحقت من بعد بالبيت الأبيض.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى