مقالات

مؤسسة (راند) الأمريكية (1)

د. طه حامد الدليمي

مؤسسة راند مؤسسة بحثية تابعة حالياً للبيت الأبيض، أنشئت عام 1946 كمركز تطوير للمشاريع والبحوث العلمية والسياسية والعسكرية تابع للقوات الجوية في وزارة الدفاع الامريكية (البنتاغون)، لمساعدة المؤسسة العسكرية في معالجة التحديات الجديدة في مجالي الإرهاب والأمن القومي. وتقاريرها معتمدة في توجيه سياسة الحكومة الأمريكية. صدر عن هذه المؤسسة الأمريكية، فرع الدوحة، تقرير تحت عنوان (الإسلام المدني الديمقراطي: الحلفاء، الموارد، الاستراتيجيات)، وهو دراسة استراتيجية موجهة للإدارة في البيت الأبيض لكي تنفذها لمواجهة (الأصولية الإسلامية). تتوخى – كما يقول د. عبد الله النفيسي – تغيير المنظومة الإسلامية إلى منظومة إسلامية بالمفهوم الأمريكي للإسلام. وهو ما حذر منه الأستاذ سيد قطب رحمه الله قبل ما يقرب من نصف قرن، وسماه بالنص “الإسلام الأمريكي”.

التقرير أعدته الباحثة في قسم الأمن القومي شيرلي بينارد، زوجة السفير الأمريكي السابق في العراق زلماي خليل زاد، عام ٢٠٠٣ قبيل غزو العراق؛ بناء على طلب من وزارة الدفاع الأمريكية. ثم قامت مؤلفة البحث بنشر ملخص لأهم نتائجه بعنوان “خمسة أعمدة للديمقراطية: كيف يمكن للغرب أن يدعم الإصلاح الإسلامي”، وذلك في ربيع عام ٢٠٠٤. وملخصه باختصار شديد أنه يرى في الإسلاميين الديمقراطيين حلاً لعلاج الأزمة الراهنة بين العالم العربي/الإسلامي والولايات المتحدة الأمريكية. وأن العالم الخارجي عليه أن يرعى ويدعم صيغة ديمقراطية للإسلام.

من دلائل أهمية التقرير

مما يؤكد أهمية هذا التقرير هو سرعة التطبيق، من خلال عقد عدة مؤتمرات متلاحقة بعد صدوره بفترة وجيزة كالمؤتمر الذي عقده مركز ابن خلدون الذي يديره د. سعد الدين إبراهيم في القاهرة موضوعه “الإسلام والإصلاح” بمشاركة ٢٠ باحثاً من جنسيات عربية وأوروبية وأميركية، والتنسيق مع ثلاثة مراكز بحثية دولية. وقد صدر بيان عن المؤتمر ذكر فيه أنه تبنى الدعوة إلى “إعادة صياغة نسق معرفي جديد للفكرالإسلامي وأهمية إدماج الحركات الإسلامية في العملية الديمقراطية، وتمكين الحركات المعتدلة من حق الوجود السياسي إذا قبلت بالديمقراطية كخيار استراتيجي، وأقرت بالمبادئ الأساسية التي تقوم عليها قيم المجتمع المدني والدولة المدنية الحديثة. كما خطا المؤتمر خطوة أبعد ولها دلالة مهمة حين اعتبر بيان المؤتمر الحاضرين فيه نواة أساسية لحركة جديدة تسمى: “الإسلاميون الديمقراطيون” في العالمين العربي والإسلامي، يتم دعوتهم بصفتهم الشخصية مرتين في العام لمتابعة التوصيات الختامية للمؤتمر. أي إن التقرير المذكور تم تطبيق توصياته بسرعة خارقة، كما أوصت بذلك “شيرلي بينارد”، حين دعت إلى توحيد صفوف الإسلاميين الحداثيين بل وبعض الإسلاميين التقليديين، الذين يوافقون على تحديث الدين الإسلامي بناء على الرؤية الأميركية. وفي نهاية ديسمبر/2003 عقد في الكويت مؤتمر (أمريكي – إسلامي) دعي إليه ممثلو الجماعة الإسلامية في مصر، والتيار السلفي في كل من الكويت والبحرين، مع ممثلي الإخوان المسلمين في الكويت والأردن واليمن؛ إضافة إلى ممثلي التيار الشيعي في البحرين والسعودية. وفي 27/3/2007 صدر عن مؤسسة “راند” نفسها تقرير شامل تحت عنوان “بناء شبكات من المسلمين المعتدلين في العالم الإسلامي” شارك فيه أربعة باحثين في مقدمتهم شيرلي بينارد. ومن أهم ما ورد في التقرير الملامح الرئيسة التي يمكن من خلالها تحديد ماهية الإسلاميين المعتدلين، وأهمها وعلى رأسها القبول بالديمقراطية، فقد اعتبر التقرير أن قبول قيم الديمقراطية الغربية مؤشراً مهماً على التعرف على الإسلاميين المعتدلين، فالإيمان بالديمقراطية يعني في المقابل رفض فكرة الدولة الإسلامية التي يتحكم فيها رجال الدين؛ لذا يؤمن الإسلاميون المعتدلون بأن لا أحد يملك الحديث نيابة عن الله. وهذا يؤيد تأييداً تاماً ما توصلت إليه من أن (الإخوان الجدد) هم غير الإخوان القدماء. فعلى أجيال الإخوان أن تعي هذه الحقيقة، وأن يزيلوا عن أعينهم غشاوة النظر إلى المتأخرين بمنظار المتقدمين.

أهمية معرفة التقرير

تأتي أهمية هذا التقرير من ملاحظة التقارب إلى حد التطابق أحياناً بين ما جاء فيه من صفات وشروط الشريك (الإسلامي) المستقبلي، وبين الخطوات التغييرية الجذرية التي اتخذها الإخوان المسلمون بجميع تفرعاتهم في العقدين الأخيرين؛ ما يثير في النفس هواجس وشكوكاً: هل هذا التطابق حصل مصادفة وتوافقاً؟ أم تناغماً وتودداً؟ أم اتفاقاً وتواصلاً مباشراً كان خفياً ثم صار يظهر للعلن؟ أضعه بين يدي الناشئة الإسلامية ليعيدوا حساباتهم، ويحزموا أمرهم فلا يدخلوا العملية مغمضي الأعين، بفعل الثقة المطلقة المسبقة، ويروا رأيهم حتى لا يكونوا ضحية لمشروع غير مشروعهم، أو غير المشروع الذي جرى التواطؤ عليه. وليفرقوا ولا يخلطوا بين مشروع الدعوة النظيف، ومشروع السياسة الذي يكتسب شرعيته من تمسحه بمشروع الدعوة مع أنه قد تتمثل فيه كل ما في السياسة من شوائب وقاذورات تبيح لقادته الظهور بأكثر من وجه: وجه تلقاء شباب الدعوة، ووجه تلقاء اللاعبين الكبار المتحكمين في ساحة العمل السياسي العالمي وقراراتها الخطيرة. وأنه صار من الطبيعي جداً بالنسبة للسياسي (الإسلامي) أن يتقمص شخصيتين: يستعمل أحداهما عند دخوله ساحة مشروع الدعوة، حتى إذا خرج منها ودخل ساحة السياسة تخلى عنها وانسلخ منها ليتقمص شخصية السياسي بكل ما فيها من خصال المراوغة والثعلبة واللعب بالألفاظ واستعمال الحبال المختلفة، كما يفعل أي سياسي آخر لا علاقة له بالإسلام وسياسته الشرعية!

الرؤية التي استند إليها التقرير

يقوم التقرير على الرؤية التالية: إن الولايات المتحدة الأمريكية بل العالم الصناعي المتمدن بأسره يفضلون عالماً إسلامياً يتماشى مع بقية النظام؛ أي يريدون عالماً إسلامياً يتسم بالديمقراطية، وقابلية النمو، والاستقرار السياسي، والتقدم الاجتماعي، والتبعية لقوانين ومعايير السلوك الدولي. هذا بالإضافة إلى أن هذا العالم الإسلامي “المفضل” مُلزم بالمساهمة في منع أي “صدام للحضارات”، بكل صوره المتاحة والممكنة الممتدة من القلاقل المحلية المتصاعدة (بسبب الصراعات بين الأقليات المسلمة والمواطنين “الأصليين” في الغرب) إلى العمليات العسكرية المتصاعدة عبر العالم الإسلامي، وما ينتج عنها من إرهاب وعدم استقرار. ومن ثم فإنه من الحكمة والاتزان تشجيع تلك العناصر – المتواجدة في داخل الخلطة الإسلامية – التي تُظهر أكبر قدر ممكن من التعاطف والانسجام تجاه السلام العالمي، والمجتمع الدولي والديمقراطية والحداثة.

والسؤال الأساسي الذي يحاول تقرير مؤسسة راند الاجابة عليه هو كيف يمكن للعالم عامة ولأمريكا خاصة، توجيه الاسلام المعاصر واعادة تشكيله من داخله من أجل ان يساير اتجاهاتها ويخدم مصلحتها؟ وما هي الإستراتيجيات المناسبة، التي يجب أن تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية، من أجل إدخال التغييرات المناسبة على الثقافة الإسلامية كي يمكن إدراجها ضمن ما يسمى بالمنظومة الديمقراطية الحديثة، وضمن قوانين السوق؟ تقديراً منها بأن العالم الإسلامي يعيش أزمة عميقة تمس طرق رد فعله ومسلكيات شعوبه ونخبه، التي أثرت سلبا على السلم العالمي. فالولايات المتحدة والعالم الصناعي الحديث، وكذلك كل المجتمع الدولي، يفضل وبوضوح، عالماً إسلامياً متناسقاً مع بقية المنظومة: ديمقراطياً، وصالحاً اقتصادياً، ومستقراً سياسياً، ومتقدماً اجتماعياً، وملتزماً بقوانين وقيم السلوكيات العالمية.

( الإسلام الديمقراطي ) هو الحل

وبناءً على هذه الرؤية دعا التقرير الى إعادة تشكيل المجتمعات الاسلامية، عن طريق تشجيع الإسلام الديمقراطي بتمكين دعاته من أداء أدوار نموذجية تقود هذه المجتمعات، بالترويج لهم، ونشر أعمالهم وتوزيعها وتشجيعهم على الكتابة لأجيال الشباب، وتوفير منابر علنية لهم، وإدخال آرائهم في مناهج التعليم الاسلامي. بغض النظر عما تريده المجتمعات الاسلامية أو ما ترفضه او تقبله الحكومات. إن تطوير (إسلام حداثي ديمقراطي)، يأخذ بالنمط الغربي للعيش والتفكير، وينتحل الاعتدال والتسامح، ويحصر التدين، ويضيق نطاقه بحيث يغدو الدين علاقة بين الفرد وربه، ويعزله عن الإطار الاجتماعي والسياسي هو السبيل الوحيد للتحرر من الارهاب. ويعزز من فكرة فصل الدين عن الدولة في الإسلام، وأن الأخير لن يتضرر من هذا الفصل؛ بل على العكس سيستفيد منه أكبر استفادة. كما يدفع التقرير باتجاه تعزيز الصوفية، ودعم البلدان التي تتبناها وتنمي تقاليدها.

وفي النهاية قدمت الباحثة لصانع القرار توصيات عملية في نظرها، لاصطناع شركاء من الإسلاميين في سبيل تنفيذ المشروع. وكلمة الشركاء – كما يقول الباحث المصري سيد ياسين (مركز الكاشف للدراسات الاستراتيجية ، المتابع الاستراتيجي ، آذار 2005) – تشير إلى هؤلاء الفاعلين الإسلاميين الذين سيقبلون – لسبب أو لآخر – الاشتراك مع الجهود الغربية عموماً والأميركية خصوصاً في عملية إعادة صياغة الأفكار الإسلامية، من خلال عملية إصلاح ديني لها خطوطها البارزة، والتي تصب في النهاية في استئصال الفكر المتطرف، ما سيؤدي بالضرورة إلى تجفيف (منابع الإرهاب).

أما إشارة العنوان الفرعي إلى الموارد فمعناها ببساطة تخصيص ميزانيات ضخمة للإنفاق على المشروع، من خلال (وكلاء) يقومون بمهمة تجنيد الأنصار ونشر الكتب وإصدار المجلات التي تحمل الفكر الإصلاحي الإسلامي الجديد. والولايات المتحدة الأميركية لديها خبرة في تجنيد (الوكلاء) و(الأنصار) و(العملاء) لتنفيذ مشاريعها الثقافية المخططة، التي تهدف منها إلى إعادة صياغة نسق القيم في المجتمعات العربية والإسلامية.

دراسات أمريكية قديمة توصي بـ( الإسلام الديمقراطي )

والواقع – والقول ما زال للباحث المذكور – أن تركيز هذا التقرير الاستراتيجي الأميركي الخطير على ما يطلق عليه (الإسلام المدني الديمقراطي) ليس جديداً في الدراسات الأكاديمية التي ركزت تركيزًا شديدًا على دراسة الظاهرة الإسلامية من كل جوانبها في العقود الأخيرة. ولعل الأب الحقيقي للتيار الأكاديمي الأميركي الذي حاول بعمق شديد ونادر تأصيل الليبرالية الإسلامية، هو عالم السياسة الأميركي المعروف ليونارد بايندر في كتابه “الليبرالية الإسلامية: نقد للإيديولوجيات التنموية” الصادر عام ١٩٨٨ عن دار نشر مطبعة جامعة شيكاغو. ومن الأهمية بمكان في سبيل إيضاح الفكرة الجوهرية التي يقوم عليها تيار الليبرالية الإسلامية كما صاغ منطلقاته الباحثون في دراساتهم، أن نعتمد على ما قرره بايندر نفسه في شرحه لخطة كتابه وهو يقول: “المحور الأساسي للكتاب هو دراسة العلاقة بين الليبرالية الإسلامية والليبرالية السياسية”. وهو يضع في اعتباره الرأي الذي مؤداه أن العلمانية تنخفض معدلات قبولها، ومن المستبعد أن تصلح كأساس آيديولوجي لليبرالية السياسية في الشرق الأوسط. ويتساءل الكاتب فيما إذا كان من الممكن بلورة ليبرالية إسلامية، ويخلص إلى أنه بغير تيار قوي لليبرالية الإسلامية فإن الليبرالية السياسية لن تنجح في الشرق الأوسط، بالرغم من ظهور دول بورجوازية.إ.هـ. قلت : وهذا ما نراه في العراق اليوم من تعانق (الليبراليتين) في المشروع السياسي الذي وضعه الأمريكان.

ويضيف الباحث المصري: “ونريد أن نقف بالتحليل قليلاً أمام هذه النتيجة المهمة التي صاغها بايندر عام ١٩٨٨، لأنها هي الفكرة الجوهرية التي قام عليها في الواقع كتاب شيرلي بينارد عن الإسلام المدني الديمقراطي، بل إن هذه النتيجة المهمة هي التي قامت على أساسها تحركات سياسية لقوى إسلامية محددة، وللولايات المتحدة الأميركية.

الإخوان يقبلون الممارسة الديمقراطية

بالنسبة للتحركات السياسية للقوى الإسلامية يمكن أن نتابع التطورات التي لحقت بفكر جماعة الإخوان المسلمين في العقود الأخيرة، حيث قبلوا الممارسة الديمقراطية، وقبلوا فكرة الأحزاب السياسية، بل ودخلوا معترك الانتخابات المصرية وكان لهم في برلمان ١٩٨٧ عشرات النواب. ومن ناحية أخرى تقدم الناشط الإسلامي المعروف أبو العلا ماضي بمشروع تكوين حزب “الوسط” الذي اعترضت على قيامه جماعة (الإخوان المسلمين) والسلطة السياسية في مصر لأسباب مختلفة بالنسبة لكل طرف. وهكذا يمكن القول إن الاهتمام المبكر لعالم السياسة الأميركية ليونارد بايندر بالليبرالية الإسلامية منذ عام ١٩٨٨ قد فتح باباً للاجتهاد الأميركي أدى من بعد – من خلال عملية تراكمية معرفية معقدة – إلى أن يصدر عالم السياسة الأميركي رايموند ويليام بيكر عام ٢٠٠٣ كتابا لافتاً للنظر عن الإسلاميين المستقلين في مصر، عنوانه (إسلام بلا خوف: مصر والإسلاميون الجدد) نشرته جامعة هارفارد. وقد خصصه لدراسة أفكار أربعة من الكتاب الإسلاميين المعروفين وهم أحمد كمال أبو المجد، وطارق البشري، وفهمي هويدي ومحمد سليم العوا… وجدير بالذكر أن هذا التيار الوسطي الذي يمثله هؤلاء الكتاب الأربعة الذين أشرنا إليهم، والذين يمكن أن يضاف إليهم الشيخ يوسف القرضاوي لم يفلت من اهتمام الأكاديميين المصريين إ.هـ.

إن المتابع لهذا الموضوع الخطير والتحولات الجذرية في الفكر (الإسلامي السياسي) يجد أن تقارير تحدثت عن مراودات (أمريكية – إسلامية) يضمن فيه (الإسلاميون) للأمريكان ما يلي:

1. المصالح الأمريكية في المنطقة، وعلى رأسها النفط

2. أمن إسرائيل

3. رفض مبدأ العنف (الجهاد)

4. مقابل ضمان الأمريكان تمكين (الإسلاميين) من الحكم، ولكن بمرجعية علمانية تقبل بمبدأ الديمقراطية وتداول السلطة، وليست إسلامية قائمة على تحكيم الشريعة. وهذا هو ما موجود اليوم في العراق. وتنادي به جماعة الإخوان المسلمين الأم في مصر وبقية تفرعاتها في الوطن العربي وعموم العالم الإسلامي. وتقدم التجربة التركية برئاسة رجب طيب أردوغان التي دعمتها أمريكا نموذجاً للاحتذاء في هذا المجال.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى