مقالات

الهوية السنية .. بين المشرق والمغرب العربي

د. طه حامد الدليمي

 

للجغرافيا والموقع الجغرافي أثر كبير في تكوين سياسة المجتمع وفكره ودينه.

يعاني المشرق العربي (الأحواز ودول الخليج العربي واليمن والعراق والشام، باستثناء فلسطين) من تحدٍّ خطير يميزه عن المغرب العربي بحكم موقعه الجغرافي، هو التحدي الإيراني الشيعي (التحدي الشرقي).

ينظر المغرب العربي إلى التحدي الشرقي بتثاؤب؛ عاداً إياه أخاً مسلماً وصديقاً ودوداً. وفي أشد الحالات خطراً مبالغاً فيه. وما يثيره بعض المشرقيين من شكوى تجاهه فسببه (التطرف المذهبي)، وهو وراء التصرف (الطائفي) ضد (إخوانهم) الشيعة. أو بسبب العنصرية (القومية) عند القوميين العرب ضد (إخوانهم الفرس المسلمين). وهكذا اختل الميزان بحيث تجاوز الأمر المساواة بين الجلاد والضحية إلى انقلاب الضحية جلاداً والجلاد ضحية!

ضعف الشعور بـ( الهوية السنية ) عند عرب المشرق

المفارقة الكبرى في هذا التمايز هي ضعف الإحساس بالخطر الشرقي لدى عرب المشرق ضعفاً يصل بالأغلبية منهم إلى درجة الانعدام التام. ولولا العقيدة السلفية، عند طائفة من المتدينين التي هي بالضد من العقيدة الشيعية، ولولا (القومية) العربية عند طائفة من السياسيين، التي هي بالضد من (الشعوبية) الفارسية لما بقي أحد يشعر بالخطر الشرقي! لكن فريق المتدينين ينظر إلى الخطر من زاويته العقائدية أكثر من جوانبه الاجتماعية والسياسية. وفريق القوميين ينظر إليه من زاويته السياسية أكثر من جوانبه العقائدية والدينية والاجتماعية. متخلين عن الموقف الصحيح.. المزج بين الأمرين. وهو ما صارت السلفية تحث الخطى نحوه، والقومية تتجه إليه ولكن ببطء.

الهوية يظهرها التحدي

وإذا كانت (الهوية) تنشأ من الجذور التي ينبع منها التكوين، فإن التحدي هو الذي يظهرها، أي يظهر أي جذر من الجذور هو المطلوب ظهوره على السطح معبراً عن الكيان المتحدى. ففي حالة حصول خصومة واحتراب بين قبيلتين تلجأ كل قبيلة إلى اسمها القبيلي الخاص كهوية تعبر بها عن ذاتها تعينها على خوض الصراع ودفع الظلم وتحصيل الحق. بينما تتغير الهوية فتأخذ اسماً أوسع عندما يكون الصراع بين دولتين من القومية نفسها أو الدين نفسه. وتضيق الهوية بضيق المكون

يلاحظ هنا أن الهوية العامة الجامعة، لا تتبنى في حال وقوع الخصومة الخاصة الفارقة؛ فالقبيلة تلجأ إلى اسمها الخاص بها المميز لها، والدولة كذلك. فلو احترب العراق – مثلاً – مع الكويت، يقال: الحرب بين العراق والكويت. لكن عندما تكون الحرب بين مجموعة من الدول العربية وإسرائيل – مثلاً – يلجأ إلى الاسم العام فيقال: الحرب بين العرب وإسرائيل. ولو افترضنا أن دولاً إسلامية خاضت الحرب إلى جانب العرب، هنا يكون اللجوء إلى اسم عام أوسع كهوية تجمع بين الطرفين وتعبر عن المجتمعين، هو الإسلام، فيقال: الحرب بين المسلمين واليهود.

إذن كلما اتسعت دائرة التحدي كبر الاسم أو (الهوية) المعبرة، وكلما ضاقت الدائرة صغر الاسم والهوية. وهكذا هو الشأن في الصراعات الداخلية: المذهبية، والطائفية، والقبيلية، والطبقية، وحتى الوظيفية. فيعطى لكل تحد ما يناسبه من هوية. ولا يصح خلط الأمور وقلبها بحيث يكون التعبير عن التحدي الأصغر بالهوية الكبيرة، وعن التحدي الأكبر بالهوية الصغيرة.

الصحابة و( الهوية السنية )

نقف الآن أمام علامة فارقة في تاريخ الهوية والتحدي الذي يظهرها ويفرضها.

قبل حصول الصراعات الداخلية كان الإسلام هو الهوية المعبرة عن الأمة. ثم حدثت صراعات وتحديات داخلية جعلت الأمة تعبر عن نفسها وتشهر في وجه تلك التحديات هوية غير تلك الهوية التي تعبر بها عن نفسها وتبرزها في وجه التحديات الخارجية.

تلخصت التحديات الداخلية بظهور فرقتين: الخوارج والروافض. وكان أجلى ما يميز الطائفتين معاً: مخالفة السنة بالبدعة، والخروج على سلطان الأمة بالفرقة. فاصطلح الصحابة على هوية داخلية تميزهم عن المخالفين للسنة المفارقين للجماعة، فكانت الهوية المعبرة المميزة تحمل هذا الاسم العظيم (أهل السنة والجماعة)، واختصاراً كاسم دارج كان اسم (السنة) هو (الهوية) المعبرة عنا نحن المسلمين أمام التحديات الداخلية.

حقائق مهمة

نستخلص مما سبق حقائق مهمة، منها:

  • قوة الفكر (الديني) حين ينطلق من دائرة العقيدة وأساسها إلى فضاء الحياة وتشعباتها كلها ومنها السياسة، بحيث تصبح العقيدة طاقة تنفخ الروح في شؤون الحياة جميعها: ديناً ودنيا. وضعف الفكر (العلماني الليبرالي)، الذي يتعامل مع السياسة وشؤون الحياة مُنبتّاً من جذوره. واحتياج الفكر (القومي) إلى أن يصطلح أكثر مع جذوره، فينطلق من عقيدته، ويعظم من شأن دينه، بالنسبة نفسها التي يحتاج إليها الفكر (الديني) اصطلاحاً مع (القومية) على تنوعها (عربية أم كردية أم فارسية أم غيرها) بالدرجة المسموحة والمأمورة بها شرعاً، ورجوعاً إلى جذوره: تبنياً للحاكمية، وإعلاناً للسنية، بعد أن أمست (الإسلامية) علمانية ليبرالية. وطغت (القومية) عند بعض (الإسلاميات) حتى فاقت القوميين الأصليين!
  • إن التحدي الخارجي يواجه بالهوية العامة. والتحدي الداخلي يواجه بالهوية الخاصة. فالتحدي الغربي اليهودي يواجه بالهوية الإسلامية العامة. لكن التحدي الإيراني الشيعي يواجه بالهوية الخاصة وهي (الهوية السنية)؛ لأن الأول خارجي، والثاني داخلي على اختلاف درجات الداخلية، فإيران إلى جانب شيعيتها تحمل الهوية الفارسية العنصرية وتواجه الهويات القومية الأُخرى – كالعربية والكردية والبلوشية والأذرية – بشعوبية حاقدة، فيصبح إبراز (الهوية القومية) ضمن المدى الشرعي جزءاً من معادلة المواجهة.
  • إن المغرب العربي كان تحديه على مر التاريخ غربياً خارجياً، فضمر لديه الشعور بالخطر الإيراني الشرقي ورديفه الشيعي، وتبعاً لذلك ضعفت الحاجة إلى (الهوية السنية) الداخلية. وجاء الاحتلال اليهودي فزاد الضعف ضعفاً إلى درجة تقرب من العدم. فهو يرفع الهوية الإسلامية دون شعور بالحاجة إلى ما هو دونها من الهوية السنية. وهذا انعكس بدوره سلباً على المشرق العربي ففقد – أو كاد – (هويته العربية السنية) أمام التحديات الفارسية الشيعية.

أسباب ساعدت على تغييب ( الهوية السنية )

مما ساعد على تغييب حاجة عرب المشرق لهذه الهوية أمور منها:

  1. سعة انتشار الثقافة العربية المغربية بسبب قوة إعلامها، وكثرة دعاتها.
  2. الاستعمار الغربي الذي اجتاح المنطقة العربية بمشرقها ومغربها، فأزاح الأنظار عن دائرة التركيز على الخطر الشرقي.
  3. احتلال اليهود لفلسطين، وتدنيسهم لبيت المقدس، وما لهذا البيت من قدسية في نفوس العرب والمسلمين. فكان ذلك سبباً لطغيان القضية الفلسطينية على القضية السنية. وتمت المصيبة بتظاهر إيران بالدفاع عن فلسطين، ولاقى ذلك هوى عند كثير من الفلسطينيين، فصاروا يلمعون صورة إيران وشيعتها في أنظار الآخرين.
  4. الحكم العلماني الذي يتطير من ذكر دين الإسلام والمذاهب والطوائف. وتنفث أبواقه فكرة اللافرق بين الشيعة والسنة، جاعلة من الفكرة و(الهوية الوطنية) البديل لذلك. وحتى القوميون الذين يعادون إيران إنما ينظرون إليها من زاوية (القومية) لا من زاوية الدين و(السنية). فأقروا التشيع ودافعوا عن الشيعة.
  5. شيوع فكرة (المذهبية) تعبيراً عن الفرق بين السنة والشيعة إن احتاجوا إليه، معتبرين التتشيع مذهباً إسلامياً معتبراً كباقي المذاهب الإسلامية، وليس ديناً آخر.

إن هذا جعل المجتمع يتقبل الشيعة كجزء من النسيج الاجتماعي، ويبتعد عن تبني الهوية السنية كأداة تعبير أمام الهوية الشيعية، عاداً ذلك نوعاً من الفتنة والفرقة المرفوضة بحكم الشرع أولاً وقبل أي اعتبار آخر. حتى قال لي أحد العلماء المقدمين في (هيئة علماء المسلمين): ليس من الدين القول بالفرق بين السنة والشيعة!

لكن ما حصل بعد احتلال العراق وتداعياته من تغول الشيعة وتمددهم في دول المشرق وتجاوزهم في حماقاتهم إلى بعض دول المغرب لفت الأنظار إلى خطر الشيعة وإيران. وهذا يوفر لنا مُناخاً مناسباً للتبشير بـ(الهوية السنية)، وإبرازها وترسيخها في أوساط عرب المشرق وتذكير عرب المغرب بها. وأنها هي (الهوية) المعبرة عنا في مواجهة أخطر التحديات؛ فالخطر الذي يجتاحنا اليوم خطر داخلي متمثلاً بـ(الخطر الشرقي): الشيعة وإيران، أكثر مما هو خطر خارجي غربي متمثلاً بالغرب واليهود.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى