مقالات

الحراك السني في العراق

شواهد الحال وإرهاصات المآل

د. طه حامد الدليمي

الذكرى السادسة لإعدام الرئيس صدام حسين رحمه الله

يدخل الحراك السني أسبوعه الثاني، في تصاعد ملحوظ سعة وعمقاً.

والسؤال الذي يشغل البال: إلى أين يتجه هذا الحراك؟ وأين سينتهي؟

عوامل عديدة تتحكم في الحدث مضموناً ومجرىً ونتائجَ. فطبيعة الشعب صاحب الحدث أحد هذه العوامل. الأسباب الدافعة، الثقافة، القيادة، الظرف المحيط بما فيه من إمكانيات ومعوقات ومعارضة: ذاتية أو خارجية وعلى رأسها العدو. والتدخلات الدولية. هذه كلها تتفاعل فيما بينها لتعطي للحدث مضمونه ومجراه ونتائجه.

لن أتناول بالتفصيل جميع هذه العوامل؛ حتى لا أخرج بالمقال إلى دائرة البحث، وإنما سأركز على بعضها حسب ما يسمح به الوقت.

أسباب الحدث

الحدث تسبب فيه الظلم والإذلال الشيعي للسنة العرب، الذي وصل إلى حدود لا تطاق. وكان الضغط في حاجة إلى دبوس لينفجر الإطار، فكان اعتقال حماية وزير المالية د. رافع العيساوي ذلك الدبوس. وقاس الأحمق الشيعي الأمر على نائب الرئيس الأستاذ طارق الهاشمي فسقط في المأزق، وهذه هي عادته كحال الحمقى جميعاً. والقياس غير وارد لاختلاف الرجلين من نواح عديدة، أولها أن العيساوي ذو ثقل عشائري أنباري، ومن عشيرة معروفة بحدتها وشدتها، ولها تحالفات قوية مع محيطها. الأمر الذي يفتقده الهاشمي عشيرة وجغرافيا. ثم إن فارق سنة بين الحدثين له حسابه من حيث حجم الظلم الواقع ونوعه وعمقه واتساعه.

الثقافة السنية العربية

الثقافة العربية السنية في العراق – قياساً بالمكون الشيعي – ثقافة (وطنية) تنفر من الاختلاف وتجنح إلى الجماعة. تستند إلى نفسية جمعية تجعلها ذات طبيعة أبوية. وتأتي الطبيعة العشائرية لتشد منها، فما من عشيرة سنية في الوسط والغرب إلا ولها امتداد شيعي في الجنوب، وما من عشيرة شيعية إلا ولها أصل وجذر سني هناك في المنطقة السنية. هذه الثقافة كانت مرتعاً خصباً لمقولة (إخوان سنة وشيعة) وظهور شعارات الأخوة وهتافات بعض المتظاهرين بها، التي تتلون باللون العشائري.

والفرق بين الشيعة والسنة في هذه الأمر سببه طبيعة العقيدة الشيعية المفرقة الواضحة، المصرحة بكفر السني ونجاسته ووجوب قتله واستباحته. والسبب الآخر هو العقدة والنفسية الجمعية المعبأة بالحقد والثار والانتقام من السني، إضافة إلى المرجع العجمي، ومن وراء ذلك كله إيران. هذه الأسباب أو العلل الأربع تغيب عادة عن نظر الباحث غير المدقق فيقع في مفارقة القياس مع الفارق. وهنا يعاني الجمهور السني من التشتت والانشطار: فثقافته وشخصيته الجمعية تدعوه للاجتماع مع الشيعة، وتصرف الشيعة الظالم المذل الحاقد يدفعه إلى عكس ذلك الاتجاه. ومن هنا تباينت الشعارات.

السياسيون والسذجة والمتاجرون

عموم السياسيين – ومعهم أفواج من السذجة والمنتفعين – يجنحون إلى ضمضمة الجريمة وطمطمتها وتفسيرها تفسيراً شخصياً يحمّل رأس حربة الجرم الشيعي المسؤولية بطريقة الدغدغة، التي تعبر عن نفسها – بدلاً من المناداة بإسقاطه – بمطالبة (السيد) المالكي بالاستجابة لمطالب المتظاهرين، وتبرئ رؤوس الجريمة الحقيقيين وهم المراجع الدينيون، بل تثني عليهم! فترى هؤلاء السياسيين (مع احترامي للبعض القليل منهم) يحضرون إلى مكان التظاهر ليحجزوا لهم حصة فيه، ويخطبون في المتجمهرين على طريقة (إياك أعني واسمعي يا جارة): اسمعني يا مالكي واسمعوني يا شيعة، أنا معكم وفي صفكم، لكن أرجوكم ارحموني؛ انظروا إلى هذا الجمهور الغاضب: لا بد من ترضيته بشيء، وانظروا إلي كيف أهدئ من روعه وأفثأ من غضبه وأقول إن “القضية سياسية بامتياز”، ولا أتطرق أبداً إلى الدين ولا أتكلم باسم السنة، بل ولا إلى إيران؛ معاذ الله! بل أنا ألعن الطائفية مثلكم، وما تلاحظونه من عبارات قد تخرج من حافة الطريق ثم تعود إليه فمن أجلكم، من أجل أن أساير الجمهور حتى أعود به ثانية إلى (بيت الطاعة). كما أن لإيران وأمريكا وبعض الدول المجاورة حصتهم في هذا الخطاب على طريقة الإشارات لا العبارات إ. ه. وهذه هي لغة المتاجرين جميعاً: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) (النساء:143).

طبيعة الشعب العراقي

الشعب العراقي شعب قصير النفس، ملول، متقلب، انفعالي، تغلب عليه الحماسة والنخوة والعشائرية، كريم، شجاع، يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة بصورة لم أجدها في غيره قط! لذلك كانت المقاومة العراقية ضد الأمريكان سريعة النشأة لم يفصل بينها وبين معركة التصدي للجيوش الغازية قبل احتلال بغداد زمن، سوى أنها خفتت أياماً إن تجاوزت الشهر لم تستوعب الشهرين حتى أخذت بالتصاعد، ولم تهدأ إلا بعد أن لملم الأمريكان أغراضهم وجلوا عن البلد. وهذا إن سلم من الموانع فيعني أن الحراك سيتطور إلى انتفاضة سرعان ما تتحول إلى ثورة سيما إذا اصطبغ الشارع بقطرات من الدم. وبعدها ستقوم الحرب. وأما نتائجها فإجلاء الشيعة عن ديار السنة، وقيام الإقليم السني إن لم يقع الانفصال.

ألفت الانتباه إلى أنني أتحدث في هذه الفقرة عن عامل واحد مجردٍ عن بقية العوامل. وهذا شيء ذهني. أما على الواقع فقد يكون مجرى الحدث ونتائجه أكبر، وقد تكون أصغر؛ حسب تفاعل العوامل الأُخرى وتعارضها أو تساندها مع بعضها.

هل نحن متهيئون ؟

أما هل نحن مهيأون لدخول المعركة أم لا؟

فالجواب على هذا السؤال ليس بسيطاً. وكل ينظر إليه من زاوية معينة. فأنا شخصياً أبدأ بالنظر إلى الحدث من زاوية المشروع المدني أكثر من بقية الزوايا. وهو يقوم على الفكرة الساطعة، والهدف الواضح، والآليات الصالحة، والقيادات الواعية الفاعلة، والموارد المادية الكافية.

أما الفكرة فنحن سنة عرب مسلمون، وهم شيعة مجوس شعوبيون. والتعايش بين الفريقين مستحيل إلا على حساب السنة. والهدف إرجاع الحكم إلى أهله وعودة بغداد سنية. والآليات برامج واقعية متطورة مدنية وعسكرية. وكل هذا يقوم على أكتاف قيادات واعية تدرك أنها سنية عربية وعدوها شيعي فارسي، مدربة بما فيه الكفاية لقيادة الجمهور بالطرق الثلاث: التأثير والتحريك والتحكم. وأما الموارد فتعتمد على الجهد الذاتي بعيداً عن المال السياسي: (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ) (البقرة:254).

هذا المشروع لا تمتلكه كل الجهات التي تحركت. فالقوى السنية جميعاً بأذرعها الدينية والفكرية والعشائرية والعسكرية: إسلامية وعلمانية، تفتقر إلى المشروع فكرة وهدفاً وآليات وقيادة وموارد.

نحن دائماً ندخل معاركنا ارتجالاً يفتقد التخطيط المسبق، واختيار اللحظة الزمانية والنقطة المكانية. فتسرق الثمرة وتأتي النتائج مخيبة.

نعم سننتصر على الشيعة بحول الله وقوته. ولكن بتضحيات أكبر، ونتيجة ملخصها تصدر المشهد من قبل مجموعة سياسية متاجرة أو ساذجة، ترتبط: عمالة أو أصالة بمراكز قوى خارجية إقليمية وعالمية. في نظام يُبعد الدين والسنة عن العنوان والمضمون، وتشترك تلك المجموعة مرة أَخرى مع الشيعة على أساس مشروع (وطني) خائب، هو المشروع نفسه الذي كان السبب في كل الكوارث التي حاقت بنا طيلة التسعين سنة الماضية، وتعاد الكرة بالكارثة على أجيالنا القدمة، ما لم تكن لها من الله كاشفة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى