الفقه الحقيقي (2)
د. طه حامد الدليمي
المعنى الاصطلاحي لـ( الفقه ) و ( الفقيه )
تعريف الفقه حسبما جاء في اصطلاح علماء الأصول هو (العلم بالأحكام الشرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية).
وهذا المعنى متأخر في الوجود عن معناه الشرعي. يقول ابن منظور: “الفِقْهُ: العلم بالشيء والفهمُ له، وغلبَ على عِلْم الدين لسِيادَتِه وشرفه وفَضْلِه على سائر أَنواع العلم كما غلب النجمُ على الثُّرَيَّا قال ابن الأَثير: واشْتِقاقهُ من الشَّقِّ والفَتْح، وقد جَعَله العُرْفُ خاصّاً بعلم الشريعة، شَرَّفَها الله تعالى، وتَخْصيصاً بعلم الفروع منها”.
وقد قال الباحثون في تاريخ (الفقه): إن المعنى الاصطلاحي للفقه قد عرف تطوراً منذ ظهوره إلى أن استوى على سوقه، فقد كان يطلق في العصر الأول على: (علم الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفس ومفسدات الأعمال وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة واستلاب الخوف على القلب). وعرفه الإمام أبو حنيفة فقال: (الفقه معرفة النفس ما لها وما عليها). فمعنى الفقه ينصرف عند أبي حنيفة إلى أمور العقيدة والعبادة والأخلاق. وهو يميز بينها بالكبر والصغر، فالفقه الأكبر عنده: علم العقيدة، وقد كتب في ذلك كتابا سماه: (الفقه الأكبر). والفقه الأصغر عنده: علم الفقه بمعناه عند المتأخرين.
ثم نقل الفقه من هذا المعنى إلى معنى آخر، صاغه العلماء في تعريفات مختلفة أشهرها تداولاً تعريف تاج الدين السبكي الشافعي الذي قال فيه: (هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية).
إذن إطلاق كلمة (الفقه) على (فقه الفروع) أو (فقه الجزئيات) لم يكن متعارفاً عليه بين فقهاء الأمة الأوائل. والحقيقة أن أئمة المذاهب الأربعة وفقهاءها لم يكونوا فقهاء فروع. بل كانوا قبل ذلك علماء بما يحتاجه المجتمع من فقه، وأهمه (فقه النوازل) أي الفقه الحادث في الواقع، وعلى رأسه ما يهم المجموع لا سيما حين يتعرض وجود الأمة الكلي للخطر. فالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى تصدى للهجمة الشعوبية بكل تشعباتها العقائدية والسياسية والاجتماعية: فدافع عن العقيدة في أهم ركائزها وهو أسماء الله وصفاته. ونافح عن القرآن الكريم، وحمى جناب الحديث الشريف وبذل جهوداً جبارة لفضح الوضاعين والمتآمرين لهدم كيان الأمة من داخله. وأصّل الأصول الكلية، ودافع عن العروبة والعربية. وحرم الخروج على الخليفة تحريماً جازماً رغم أن سياطه كانت تلهب ظهره؛ وكان يعلم أن المقصود من الدعوة لذلك ليس النهي عن المنكر وإنما ضرب الدولة في شخص الحاكم. ودفع لأجل ذلك ثلاثين سنة من حياته بين السجن والتعذيب والإقامة الجبرية. فكان فقهاؤنا يعيشون آلام الأمة وآمالها، ولم يكونوا كمعظم المتأخرين ممن يطلق على أحدهم اسم (الفقيه) ظلماً، ممن يعيشون في بحبوحة من الحياة، لا يهمهم من الفقه إلا بارده وفروعه التي لا تثير ظالماً ولا تغيظ عدواً ولا تصد صائلة الحاقدين ولا غائلة المتآمرين. ذلك الفقه الذي تجد المجتمع في غنى عن أكثر من (95٪) منه. ولا نفع من ورائه سوى أن يدرسه السابق للاحق، ثم اللاحق لمن سيلحق به، بعيداً عن حاجات الجمهور والنوازل التي تحل به ليل نهار!
ومع احترامنا للعلم عموماً فإن معظم هذا الفقه أمسى من العلم الذي لا ينفع. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من هذا العلم. لكن الناس اليوم تخلط بين الفقه والشريعة. فلا تدرك أن الشريعة هي الوحي النازل وهو معصوم، بينما الفقه ما يفهمه العالم من الشريعة، وهو يحتمل الخطأ والصواب، ويختلف حسب الزمان والمكان والأعيان.
فقه النبي صلى الله عليه وسلم
لو رجعنا إلى الفقه الذي نزل في مكة لوجدناه تدور رحاه على الأمور الحادثة التي يحتاجها المسلمون في ذلك المجتمع، أي ما عرف متأخراً بـ(فقه النوازل). وكان أقله ذلك الذي يتعلق بـ(فقه الفروع)، أما معظمه فيعالج قضايا الدين الكلية (إيماناً) و (نصرة). أي فقه (القضية والهوية). الذي يحدد من هو المسلم ومن هو الكافر؟ وما أهداف المسلم وغاياته؟ وما وسائله وواجباته؟ وكيف يتعامل مع أهل دينه، على أي خلق يكون، وأي مسلك يسلك؟ وكيف يتصرف مع مجتمعه؟
ويمكننا مراجعة الآيات (23-39) من سورة (الإسراء) لزيادة معرفة بالمقصود.
وإذا أراد أي شخص منا معرفة (الفقه الحقيقي) الذي علينا معرفته في هذا الزمان فليسأل السؤال التالي: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم في العراق اليوم: هل سيكون حظه من الفقه دراسة (فقه الفروع) وتدريسه، وترك المجتمع بما فيه؟ هل سيدعو الجمهور إلى ترديد “إخوان سنة وشيعة”؟ هل يمكنك تخيل ذلك مجرد تخيل؟! هل تجرؤ على الادعاء بأن أبا القاسم سيتلفظ بهذه العبارة “إخوان سنة وشيعة”؟!!! إذن هؤلاء الذين لهم شارة الفقهاء وسمت العلماء من الذين يقولون ذلك، ليسوا على منهج الإسلام، ولا سنة محمد عليه السلام. وليسوا هم المقصودين بالفقه والفقهاء، ولا ممن أراد الله بهم الخير المذكور في الحديث الشريف الذي يرويه البخاري بسنده عن حميد بن عبد الرحمن قال: سمعت معاوية خطيبا يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين). لا والله!
لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا لأعرض عن دراسة فقه الفروع، ولشمر ساعد الدعوة إلى أن أهل السنة هم المسلمون، وأنهم أمة دون سواهم، وأن الشيعة ليسوا من هذه الأمة. ولهاجر، أو انحاز، بأهل السنة إلى أرض تؤويهم وتمنعهم من عدوان الشيعة، ريثما يقوَون ويتمكنون، ثم كرّ على الشيعة يعرض عليهم الإسلام من جديد.
لماذا عُظِّم فقه الفروع أو الجزئيات
أغلب الناس يميل – بفطرته – إلى الدعة والسكون وتجنب المشاكل. و(فقه الفروع) لا يثير ظالماً، ولا يغضب أحداً: لا من الحكام ولا من المتنفذين ولا من المجتمع. بل ربما حقق لبعضهم حظوة ومنزلة بلا ضرب سيف، ولا مؤونة ضيف. في الوقت نفسه هناك صنف من أهل العلم لا ينامون على ضيم، ولا يرضون لأنفسهم أن ينفردوا عن مجتمعهم يعاني وهم ساكتون ساكنون. ينظرون إلى العلل والأدواء الاجتماعية فينصبون أنفسهم لمواجهتها وعلاجها، وإلى الحاجات الاجتماعية فينفرون لتلبيتها، وإلى غربة العلم وسوء الفهم فيدعون إلى تصحيح المفاهيم ونشر العلم الصحيح وإن كان في خلاف المعهود المتعارف عليه. وهؤلاء ينقسم المجتمع تجاههم قسمين: قسم يضاددهم ويحاربهم، وقسم يناصرهم ويؤيدهم. وكلا القسمين يشارك في شهرتهم ولفت الأنظار إليهم ويمهد الطريق أمام قيادتهم. وهنا تتحرك في النفس نوازعها النكوصية وغرائزها البدائية لدى تلك الطبقة المترهلة من (فقهاء الفرعيات). وينظرون فلا يجدون أنفسهم قادرين على مجاراة أولئك النبلاء من(فقهاء النوازل) ورثة النبي صلى الله عليه وسلم الحقيقيين؛ لأن فيها دفعاً لثمن ليسوا أهلاً لأدائه. فماذا يفعلون لإزاحة أولئك النبلاء، وحيازة المكانة الاجتماعية دون التعرض للخوف ومقدمات البلاء؟ ليس أفضل من دراسة (فقه الفروع) وإتقان مذهب من المذاهب الفقهية، والنفخ في إهابه وتضخيم جرابه، والدعوى بأنه هو الفقه الحقيقي، والدعاية لهذه الفكرة ونشرها وترسيخها، مستغلين المعنى الاصطلاحي للتعمية على المعنى الشرعي. مستخدمين بعض العبارات التي تجبن الجمهور عن الاعتراض عليهم مثل (لحوم العلماء مسمومة). وإيهام الجمهور بأن لفظ (العلماء) لا يصح إطلاقه على غير فقهاء الفروع.
وانظر إلى هؤلاء تجدهم أبعد الناس فهماً لحاجات المجتمع، وأقلهم معرفة بالحكم الشرعي للمسائل الكلية والنوازل الجمعية. وأضعفهم عن تنزيل حكم الشارع على مورده من الواقع. وقد أكرمنا الله تعالى بسكوتهم وعزلتهم طيلة أعوام الاحتلال وأيام المنازلات العظمى بيننا وبينه. ولله الحمد فلو نطقوا لأتوا بالعجائب، وجنوا علينا من المصائب. حتى إذا جلا المحتل وطمعوا بالرجوع إلى أماكنهم سالمين، جاءونا بفتاوى باطلة ليس القصد منها سوى الفوز بالسلامة من عدو أخطر وأعدى، ليس أولها القول بعدم الفرق بيننا وبينه، ولا آخرها.
هكذا أصيبت الأمة بأخص مفاهيمها المتعلقة بما يعتبر حجر الزاوية في سلم الارتقاء في مدارج العلم والحضارة، وبداية سلسلة الإصلاح في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ألا وهو كلمة (اقرأ). حتى قزمت هذه الكلمة العظيمة، إن لم تكن مسخت مسخاً في أذهان المجتمع جمهوراً ونخبة.
وإذا أصيبت الأمة بفهمها لأول كلمة من كلمات كتابها العظيمة، وأهم محرك باتجاه البحث والإصلاح، فهذا يعني أن خراباً عظيماً أصابها في أركان نهضتها وأسس صلاحها. وأن من أوجب واجبات الوقت للنهوض هو الرجوع إلى أول الطريق، فنبدأ من تصحيح المفاهيم، استجابة للأمر الرباني العظيم (اقرأ). فهلموا نقرأ كتاب نهضتنا طرياً ندياً كما نزل، بعيداً عن تراكمات التاريخ؛ “فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح عليه أولها”.