من خيالات الرافضين للفدرالية (8)
د. طه حامد الدليمي
” هذا ما يريده العدو “
يظهر أن قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى:
وإنْ كثرتْ عيوبُكَ في البرايا تستَّرْ بالسخاءِ فكلُّ عيبٍ |
وسرَّكَ أنْ يكونَ لها غِطاءُ يغطيهِ كما قيلَ السخاءُ |
لا يقتصر على حالات الإنسان في فقره وغناه المادي، وكيف أن عيوب الفقير بينة وعيوب الغني السخي هينة، فحسب، وإنما يمثل قانوناً اجتماعياً شمولياً يتعدى الفقر في المال إلى الفقر في الفكر! بل يبدو أن شحة الفكر أقسى وأنكى، وأنه حين يصاب المرء بها إلى حد الإفلاس تظهر عليه عيوب لا تستر إلا بالموت أو التواري عن الخلق، وإلا صار غرضاً يرمى، وهدفاً للتندر، وأضحك على نفسه القريب والبعيد!
كثيرة هي مهازل رافضة الفدرالية.
وكنا – إلى عهد قريب – نحاول تحسين الظن فنرجح أن جهلهم بالشيء هو الباعث لرفضهم. لكن ما ظهر منهم إلى اليوم – مع استثنائنا لبعضهم – دلّ على أن الأمر أعمق مما كنا نتصور، وأن القوم يبدون وكأنهم يخوضون معركة حياة أو موت؛ فالتراجع إلى الحق وصمة لا تليق بهم، والخطأ من نصيب الجميع سواهم. وهذه – معاذ الله – صنمية الطواغيت حين تكشر عن سوأتها، وأن القضية شخصانية لكنها تتقمص الوطنية. فإذا كان صاحبها (إسلامياً) بانت سوأته أكثر؛ فلا الصنمية تتواءم مع (إسلاميته)، ولا الوطنية من دينه إذا كانت فوق دينه.
لقد حلقت خيالاتهم السقيمة وكثرت شبهاتهم التافهة عن الفدرالية بحيث أعادوا إلى الأذهان قصة بني إسرائيل مع البقرة، فما يجيبهم موسى عليه السلام عن شبهة حتى يتبعوها بأخرى. سبحانك ربي ما أحكم كتابك! وما أصدق قولك يوم قلت: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) (يوسف:3). يريدون حلاً سالماً مسلماً من كل نقص يعتريه، كاملاً مكملاً (لا شيةَ فيه)، في الوقت نفسه الذي لا يقدمون فيه حلاً ولا يؤخرون غلاً!
هذا ما يريده الأمريكان
من تلك الخيالات السقيمة حشرهم موضوع الفدرالية بموضوع التقسيم، ليعبروا من خلاله إلى القول بأن هذا ما يريده الأمريكان طبقاً لـ(مشروع بايدن) نائب الرئيس الأمريكي الحالي. ومنهم من يتجرأ ليضيف إيران إلى الأمريكان، ويثلث بالمالكي وشيعة الشيطان.
ومن أعجب ما سمعناه منهم ردهم على من يقول لهم: أما رأيتم المالكي كيف استقتل على رفض الفدرالية؟ فيقولون: بل هو يريد الفدرالية وإنما يفعل هذا من أجل أن يدفعنا إلى التمسك بها. ولعمرو الله إذا وصل الإنسان إلى هذه الدرجة فقد تُوُدِّع منه، وقديماً قيل: “توضيح الواضحات من المشكلات”. ولكن لا عجب ممن كان يقول: إذا خرج المحتل فستزدحم بالعملاء الحدود. حتى إذا قيل لهم: ها قد خرج المحتل ولكن العملاء هم من تسلم المحل مكانه، ونحن الذين ازدحمت بنا الحدود، وأقيمت في وجوهنا السدود؟ إذا هم يقولون بلا حياء ولا قطرة ماء: كلا فالمحتل لم يخرج بعد!
كان لي صديق يزورني فيعجبه استفزاز ولدي عبد الله – وكان طفلاً صغيراً – بأن يقول له بلهجة المستنكر: عبد الله! صحيح أمك دليمية؟! فيجيبه مباشرة دون تروٍّ: لا، انت أمك دليمية! فيضحك صديقي أبو سليمان حتى يفحص بقدميه. وكلما زارني كرر السؤال وتكرر المشهد المسلي.. وهكذا!
وهذا مما يشهد لهؤلاء بأنهم يعانون من حالة نكوصية وعقلية طفولية حقاً!
الأصل في الإرادة
إن الأصل في الإرادة – أيها الحالمون! – هو أن يسأل الإنسان أولاً: ماذا أريد أنا؟ وليس ماذا يريد العدو؟ ويدرس أهدافه بدقة، ثم بعد ذلك ينظر في مرادات الآخرين وكيف يوظفها في خدمة ما يريده دون أن يستدرج ليكون ضحية لمشاريعهم. وإلا أصبح مثل كرة القدم لا تفلت من قدم حتى تركلها قدم؛ فالأعداء كثر وليسوا هم جهة واحدة أو صنفاً واحداً، ومراداتهم متعددة مختلفة، فمن الصعب – إن لم يكن من المحال – وضع هدف لا يوافق إرادة واحد منهم. بل السياسة والمفاوضة تقوم على المعادلة الشراكية وليس المعادلة الصفرية. فالذكي الموفق في عالم السياسة هو من بحث عن نقاط الشراكة مع عدوه واستعمله في مراده، وليس العكس كما يقول ملالي الدين ومراهقو السياسة رغم بلوغهم أرذل العمر، والمراهقة عند الشيخوخة شخشخة مكشوفة.
يقول تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال:30). قال الشوكاني في (فتح القدير): أي يخرجوك من مكة التي هي بلدك وبلد أهلك. وقال ابن كثير في تفسيره: وأنزل الله في إرادتهم إخراجه قوله تعالى: (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا) (الإسراء:76). فماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟ هل قعد لينظر فيما يريده به ويمكر به الكافرون فيتجنب كل ما يريدونه به؟ أم نظر فيما هو صالح له ليكون هو مراده ومطلوبه وإن كان موافقاً لمراد أعدائه؟ وهكذا خرج صلى الله عليه وسلم من مكة مع أن هذا أحد جوانب المؤامرة، وخيارات الأعداء؛ فقد كانوا حريصين على إخراجه من بلده، ويستعملون لذلك شتى أساليب المضايقة والاستفزاز. والعجيب أنه على رأس هؤلاء من ترك العراق بسبب استفزازات الأعداء من الأمريكان وإخوتهم (الشيعة العرب)!
أما إيران فمتطيرة إلى آخر درجة من الإقليم السني، وقد أجلبت بخيلها وحَيلها في سبيل منع إقامته؛ لأن ذلك يقيم حائلاً بينها وبين الشام فيكون عاملاً من عوامل الإجهاز على حلمها في تكوين (الهلال الشيعي)، وهو مقدمة لخروج العراق من قبضتها، وإفلاته من خطتها في تشييعه بكليته. وسيؤدي إلى انتزاع السنة لمنصب رئاسة الوزراء. والأسباب نسبة لإيران متعددة ليس آخرها خوف إيران من انتقال عدوى الأقاليم إليها.
رحم الله صديقي أبا سليمان.. لقد غادر هذه الدنيا حميداً.
يا قوم! اتركوا هامشاً سليماً للاختلاف حتى تجدوا من يترحم عليكم يوم تغادرون.. رحمكم الله!