السقوط المدوي في الذكرى العاشرة للاحتلال
د. طه حامد الدليمي
عندما يتقادم الزمن وتبدأ الجروح بالالتئام يمكن للمجروح أن يتحسس مواضعها دون أن يدفع الكثير من فاتورة الألم.
عشر سنين مرت على احتلال بغداد، تكفي لأن نفيق من غمرة ألم الذكرى، ونتجاوزها إلى شاطى الفكرة. أما أنا فقد بدأت بالإفاقة منذ سنتين، فهذه هي الذكرى الثالثة التي أستقبلها دون أن أكون أسيراً لأداء مراسيم الحزن وطقوس الأسى.
عزيزة هي بغداد.. وعزيز على عاصمة الرشيد أن يدنسها الأنذال. ولا أدري هل يمكن لأحد منا أن يستعيد الحدث دون أن يلجمه الغصص! كيف وهي بغداد؟ بالله عليكم ألستم حين تنفثون اسمها فكأنما يستل من القلب استلالاً، ويستحيل أمام الناظر وروداً وظلالاً؟
بلى..؛ إنها بغداد…………………….
بوارقُها هذي وهذي رعودُها وتلك سرايا عزِّها وبنودُهاوتلك مضاميرٌ إلى المجدِ عُبِّدتْ دماً ، كلما آلتْ لجدبٍ نزيدُها وما بينَنا الا مسافةُ نبضةٍ |
نعم انها بغدادُ من ألفِ حجةٍ توالى عليها مجدُها وسعودُهانعم انها ظلت مدى الدهر لبوةً إذا زأرت تنفكُّ عنها قيودُها نعم انها بغداد .. للأرضِ محورٌ |
نعم انها بغدادُ ، تاريخُها الهدى وأقصى مجراتِ الشموسِ حدودُهانعم انها نبضُ الحضاراتِ ، دونَها لما أثمرت يوماً وأخصبَ عودُها([1]) |
ليس من السهل على عشاق بغداد تجنب هذا الدفق المتلاطم من الألم، حتى بعد هذه السنين! ولكن.. إذا كان البكاء على الأطلال لا يجدي باكياً، ولا يرجع ماضياً، فلنا الحق في أن نتكئ على القلب رغم جراحه، وندوس على جثث الأحبة المتناثرة على الطريق كي نواصل المسير، لنقول:
دعونا من المشاعر إذن، واتركونا من تفاصيل الحوادث والخسائر، وخلونا مع بعض الدروس التي يمكننا تأسيس مشروع عليها يصلح للإنقاذ. وأول المشروع الفكرة، التي تنتهي بهدف واضح محدد. وبين هذا وذاك تأتي الخطة والآليات والوسائل. ويقوم على مهمة التنفيذ – وهذا جزء أساسي من المشروع – قيادة جديدة غير القيادة التي كانت جزءاً من المشكلة والسبب في وقوع الكارثة.
وهذا ما لم يحصل للسنة العرب حتى اللحظة!
موانع مشروع الإنقاذ
عند النظر في واقع العراق عموماً وواقع السنة العرب خصوصاً، نجد أن السبب في فقدان ذلك المشروع، واستمرار الكارثة التي حلت بهم، يرجع في أصله إلى علتين اثنتين:
- فقدان الهوية السنية
- وضعف القيادات التي تصدرت المشهد السني
هذه هي الفكرة التي ينبغي أن تؤسس للمشروع.
إلا أن السنة بقوا – طيلة الفترة الماضية – في معزل عن الفكرة، وأصابعهم تطيش عن تشخيص العلة. فقد خاضت المقاومة معركتها باسم الوطن، ومارس السياسيون منهم دورهم باسم الوطن أيضاً، وكتب الكتاب وخطبت المنابر وصدر الفكر باسم وهم اسمه العراق. وهذا مكمن العلة. أي فقدان الهوية التي لا يمكن أن يبنى بيت من دونها، ولا يؤسس لمشروع خارج نطاقها. وهو ما يكشف بوضوح عن ضعف القيادات جميعها. وأول دلائل ضعفها عدم قدرتهم على اكتشاف الفكرة المؤسسة، فضلاً عن رسم الهدف المنشود. مجمل القول لقد عجز الجميع عن وضع مشروع للإنقاذ.
كانت العقبة الكأداء أمام ولادة المشروع هو الفكر الوطني. إنه العلة الكبرى والمادة المتفجرة الأقوى أمام سكان العراق. وهو المانع الأساسي من وجود حالة الاستقرار والسلم الاجتماعي. والفكر الوطني – ما لم يتمَّ اجتثاثه عاجلاً – سيؤدي إلى تشظي الوطن، ولا بد. والسبب هو أن أحد المكونات المتواجدة في هذا الوطن طائفة يستحيل عليها التعايش مع الآخرين لأن عقيدتها تفرض لزوماً عليها قتل المخالف واستباحة ماله وعرضه. يغذي هذه العقيدة نسيج متشابك من العقد الجمعية، ويدفع باتجاهها المرجع الديني، وترعاها إيران. وهي اليوم تعتاش على هذا الفكر المتفسخ كما تعيش الديدان على الجثث.
بداية الحل
تشهد الساحة العراقية اليوم بشائر يقظة سنية تأخذ بالاتساع في تسارع مشهود. ساعد على ظهورها توالي وقوع المصائب على رؤوس الجمهور السني في الفترة الماضية، يسندها تثقيف موازٍ حملت رايته بعض القنوات الفضائية. شارك (الحراك السني) الذي انطلق قبل ثلاثة أشهر ونيف بإنضاجها. ولأول مرة يظهر التمايز بين الصفين السني والشيعي بصورة لم تسمح لأصحاب الفكر الوطني البائد بتمييعها والتحايل عليها. فقد ظل الحراك مقتصراً على المحافظات الست السنية، ولم تدخل فيه – كما هو المفترض طبقاً للفكر الوطني – أي محافظة شيعية. بل اصطف الشيعة مع حكومتهم، وانفرد السنة العرب وحدهم مكشوفي الظهور إلى العراء! فكان هذا إنضاجاً ناجعاً لـ(الفكر السني)، وإعلاناً صارخاً عن أفلاس الفكر الوطني وخسارة أصحابه، وإيذاناً بذهاب زمانهم ومجيء زمان جديد بفكر جديد ووجوه جديدة.
إن الفكر الوطني في العراق اليوم يلفظ أنفاسه الأخيرة. وهذا مؤشر رائع، يبشر بخير وافر قادم، وبداية واعدة لانفراج الأزمة ليس للسنة العرب فقط، وإنما لجميع المكونات في العراق.
وإذا كان سقوط بغداد في حينه مدوياً.. فسيكتشف الجميع مستقبلاً أن السقوط المدوي الحقيقي هو سقوط الفكر الوطني. وإذا كان السقوط الأول هو بداية الكارثة، فإن السقوط الثاني هو بداية زوالها بإذن الله جل في علاه.
_________________________________________________________________________________
- – الشاعر حاتم عبد الواحد. ↑