مجزرة الحويجة
د. طه حامد الدليمي
هل بدأت العناوين الحقيقية للحرب بالظهور ؟
طبول الحرب – التي كنت أقول: إنني أكاد أسمع دويها بأذني – قد دُقت، وها هو صداها يملأ الآذان وترتج له الآفاق! وما كان لها إلا أن تدق مادامت هناك طائفة تكفيرية إلغائية دموية تحكم بلداً سنياً، وطالما بقي السنة يروغون عن الحقيقة.
وكانت البداية من “الحويجة” ذلك القضاء الذي يقع إلى الجنوب من مركز محافظة كركوك في شمال العراق بحوالي (50) كم، بينها وبين محافظة صلاح الدين، وتقطنه عشائر عربية أكبرها عشيرة العُبَيد (بضم العين وفتح الباء) والجبور والنعَيم وشمر وغيرهم، مع أقليات من الكرد والتركمان. والقضاء مدينة سنية خالصة، تميزت بمقاومتها الشرسة ضد الغزاة.
كانت مجزرة فظيعة تلك التي شهدها فجر الثلاثاء 23/4 بحق المعتصمين العزّل، ارتكبتها المليشيات الشيعية تحت مسمى (الجيش العراقي)، تجاوز عدد ضحاياها المئتين، كان القتلى (نحسبهم شهداء) منهم قرابة التسعين! بعضهم جرحى تم إعدامهم بعد أسرهم بالحراب والرصاص، وبعضهم دهسته السيارات العسكرية، وبعضهم قتل أثناء المواجهة غير المتكافئة. وكانت تلك الشراذم المعتدية – وفيهم جنود يرطنون باللهجة الفارسية – تشتم أبا بكر وعمر وعائشة قبل أن تبدأ هجومها، وبعد أن قضي الأمر قامت المليشيات بإحراق الخيام. ليعيدوا بهذا المشهد الوحشي إلى الأذهان الأسطورة الشيعية عن مقتل الحسين رضي الله عنه، والتي يمثلها الشيعة كل عاشوراء، وتنتهي بإحراق الخيام!
كان هذا العدوان إيذاناً بانطلاق معارك قادتها العشائر والفصائل المسلحة، شملت كثيراً من المناطق على اتساع رقعة المنطقة السنية، كشفت عن ضعف الجيش الحكومي الشيعي، رغم وحشيته واستعماله الطائرات والدبابات والأسلحة الثقيلة. ومن اللحظات الأولى بدأت الانشقاقات في صفوفه والهزائم تتوالى وتسليم نقاط السيطرات في تلاحق، مع قطع الطرق على الأرتال المتحركة وحرق بعضها، والاستيلاء على بعض معداتها. وما زالت المعركة في أولها، ولكنها تزداد ضراوة واتساعاً مع كل ساعة تبسط دقائقها وتنشر لحظاتها على وادي الرافدين.
حروف في حاجة إلى نقاط
إذا كان فهم الحدث أهم من الحدث.. واستثماره هو القيمة الأعلى في المعادلة، فأود من بيندخان المعركة وغبارها أن أثبت النقاط التالية، بعد أن أحيي بإكبار بطولة المعتصمين في ساحة الغيرة بـ(الحويجة) على شجاعتهم وثباتهم وصمودهم، وهم يتلقون الموت بصدورهم العارية! ويا لله كم شدني وأذهلني منظر أولئك الأبطال الذين يتبخترون بين الصفين وليس في أيديهم غير أسياخ الحديد يتحدَّون بها تلك القوى الجبانة المدججة بالأسلحة الثقيلة. يا ويح أمهات أنجبتهم! ويا لَروعة أرض أقلتهم، وسماء أظلتهم، وعِظَمَ ملئكة شهدتهم وصورت مشهدهم وسجلت مأثرتهم! ويا لهناءتهم وفوزهم وفخرهم يوم تعرض تلك الصورة الرائعة أمام الخلائق في ساحة العرض الأكبر!!!
- ومع هذا أقول بكل أسى: ما زال السنة – رغم كل ما حدث – يروغون عن قول الحقيقة، والتعبير عن العنوان الصحيح للمعركة. وهذا يبشر – وا أسفاه! – بمزيد من سياط القدر.
- المعركة (سنية – شيعية) (إسلامية – مجوسية) (عربية – فارسية). هذه هي عناوينها الصحيحة، وستفرض نفسها عاجلاً أم آجلاً مهما راوغ المراوغون وأنكر المنكرون. ومن شواهد عناوينها هذه أنه في الوقت الذي يذكر فيه أهل (الحويجة) في العراق أنهم يسمعون لغة الفرس يرطن بها بعض المهاجمين في ساحات اعتصامهم، يذكر الشيء نفسه أهل (القصَير) بسوريا في ساحات قتالهم. وإلى عهد قريب كنا نحاور بعض إخواننا من عرب كركوك أن العدو الحقيقي هو الشيعة، فيقولون: لا، إن الخطر كردي لا شيعي. ونقول: إن مشكلتنا مع الكرد مشكلة حدود، بينما مشكلتنا مع الشيعة مشكلة وجود، فلا يقتنعون. فنضطر للقول: ستثبت لكم الأيام الحقيقة كما هي، ولكن نخشى أن لا تمنح الأيام عطاياها بلا ثمن. وما حصل أخيراً أثبت أن الشيعي مع الإيراني يقتل العربي السني، بينما الكردي ينقل أخاه العربي السني الجريح إلى مستشفيات أربيل والسليمانية، وأمس حينما اقتربت طائرات الشيعة تبغي قصف ساحة الاعتصام العربية في مدينة كركوك تصدت لها المقاومات الأرضية للكرد وأرجعتها على أعقابها!
- ما زال بعض الوطنيين ينهقون – مع احترامي للبعض منهم – بكذبهم المفضوح، فيدعون أن عشائر العراق جميعاً بما فيها عشائر الجنوب الشيعية، انتفضت وثارت مع عشائر السنة. ولعمرو الله قد فقد القوم – ومنهم معممون، يا للفضيحة! – آخر قطرة ماء في وجوههم!
- الدارس بعمق للشخصية الشيعية يجدها شخصية غير متماسكة نفسياً، تنهار عند أول ضربة، مهزومة من الداخل، غادرة خسيسة. وإن من أسباب بدئها بساحة اعتصام الحويجة أنها الساحة الأضعف من بين ساحات الاعتصام، ويعلمون جيداً أن المعتصمين عُزّل من السلاح، ولو كان في أيديهم بضع بنادق، ولو أطلقت رشقة رصاصات لما اجترأت تلك القوات المتدرعة بأنواع الأسلحة عليهم. ولقد أثبتت الأيام الثلاثة الماضية ضعف الجانب الشيعي وانهيار معنوياته رغم امتلاكه لكل عناصر القوة المادية، وقوة الجانب السني على قلة ما لديه من سلاح وذخيرة.
ثلاثة أمور مفصلية
في هذا الظرف الحرج أسجل ثلاثة أمور استراتيجية، وهي:
- إن القوى العربية السنية قوى متوزعة بين فصائل متفرقة وأسماء متعددة ورايات مختلفة وشعارات متباينة. وما ذلك إلا لفقدان الهوية السنية الجامعة، والتي بدأ الشعب السني العربي باكتشافها وعادت إلى الظهور في الأوان الأخير بقوة. وبناءًعلى هذا الأساس نرى أنه لن يوحد هذا الشتات سوى الإعلان عن تشكيل (الجيش السني الحر)، ودعوة الجميع للانخراط تحت هذه الراية بقيادة مدنية مشتركةعليا، وقيادة عسكرية تنفيذية تكون مرجعيتها تلك القيادة المدنية، كما هو شأن كل الدول المتحضرة. بل كما هو شأن العسكرية الإسلامية أصلاً. إن العنوان السني للجيش والمعركة يحقق لنا مكسبين عظيمين:
- أولهما رضى الله تعالى برفع رايته الربانية.
- ثم حشد أكبر ما يمكن من القوى، والتي لا يمكن حشدها بالحجم المطلوب تحت أي مسمى آخر.
- توضع خطة محكمة لمنع هروب المليشيات الشيعية، أو ما يسمى بـ(الجيش العراقي) زوراً وبهتاناً، ولجوئها إلى بغداد أو مناطقها الشيعية. وإصدار بيان واضح وقوي وصريح يدعو تلك المليشيات المجرمة إلى الاستسلام، ثم أخذهم أسرى مقابل أسرانا من الرجال والنساء في المعتقلات الحكومية. إن هذه المبادرة الشجاعة ستصيب الجانب الشيعي بالإحباط وتدمغه بالانكسار، كما أنها ستختصر علينا ثلاثة أرباع الطريق باتجاه النصر. ويمكننا بها إطلاق جميع أسرانا بلا مطالبة خائبة أو استجداءات ذليلة.
- التوجه – دون تأخير – نحو الإعلان عن تشكيل الإقليم السني طبقاً للدستور. وهذا سيكون الضربة الثانية الموجعة للجانب الشيعي، ويعطينا – في الوقت نفسه – المشروعية الدولية، التي ستكون الأرضية الصالحة لتدويل قضيتنا.
لقد آن الأوان لأن تأخذ المعركة عنوانها الذي يمثلها في الحقيقة أصدق تمثيل، وبات الواقع يعبر عنها أوضح تعبير. وليعلم الجميع أن كل يوم تأخير يعني دفع أثمان إضافية، وأن النتيجة النهائية لن تكون غير الرجوع إلى العنوان الذي يروغون عنه، وأنهم مهما فروا منه فأنه ملاقيهم مهما راغوا، وأينما فروا، وحيثما اتجهت بهم السبل عن سواء السبيل.