مقالات

الوطنية في خطر

د. طه حامد الدليمي

الوطنية بالعراق في خطر يا سادة..!

إنها تُحتضر.. وحُقَّ لها ذلك.

دعواتِكم لها بأن يعجل الله تعالى القضاء عليها؛ فلطالما كانت السبب في دمارنا وقتلنا وتهجيرنا من ديارنا. حتى إذا لفظت أنفاسها ونفينا الوجود الشيعي عن وجودنا نبتت لنا وطنية صافية نقية بإذن الله الذي (يخرج الحي من الميت).

الوطنية – في أصلها – فكرة جميلة، وفطرة سليمة. لكن ما كل ما هو جميل سليم في أصله يبقى كذلك في فصله ووصله. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء، ثم يقول: (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم)([1]). الوطنية مجسها الشيعة ونجسوها فاستحالت مع الزمن نجَساً لا يطهر إلا بالحرق.

الأُخوة أقرب رحماً من الوطنية، لكنها – مع من يسيء إليها ولا يرعى حرمتها ولا يرعوي عن التمادي في استغلالها – ضرر محض لا يصح عقلاً ولا يجب شرعاً مراعاتها، بل قد يكون المطلوب نبذها والكفر بها حفظاً للنفس والمال والعرض. وكذلك الحال مع الوطنية الزائفة. لقد سار السنة على أساسها قُدماً تسعين سنة فما جنوا منها غير الأذى في أنفسهم وأعراضهم وأموالهم وعقولهم. فهل عليهم أن يوروثوها ذراريهم وأجيالهم القادمة؟ لقد آن الأوان لفصمها مع الشيعة كما يفصم عقد شراكة لم يجلب لأحد الشريكين، أو كليهما، غيرَ البلاء.

لكن أصحاب الفكر الجامد، والفقه الراكد لهذا لا يدركون ولا يفقهون، في عملية إصرار مقرفة تمتهن العقل، وتلغي الواقع وتخضعه قسراً لحسابات آيدلوجية مسبقة على طريقة (عنزة وإن طارت)!

كم آلمنا هؤلاء أيام الاحتلال عندما كانوا يدّعون – ستراً لجثة وطنيتهم المتفسخة – أن “المقاومة هي مقاومة العراقيين جميعاً من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، شيعة وسنة”!

الحقيقة أن الشيعة كانوا يقاومون فعلاً.. ولكن……. يقاومون المقاومة!

ولكن ماذا يفعل الوطنيون وآيدلوجيا الوطنية تستلزم منهم مصاديقها على أرض الواقع، وأولها أن يشترك الشيعة مع السنة في مقاومة المحتل. وعدم مشاركة الشيعة السنة في هذا الأمر الوطني يعني نسف الفكرة الوطنية من الأصل، إذن اشتركت الشيعة في مقاومة المحتل (وإن طارت).. وتباً للواقع الذي يكذبنا! هذا هو منطقهم طيلة عشر السنين الماضية صعداً نحو ثمانين سنة قبلها ونيف.

ربما خيّل لبعضنا في لحظات حلم أن النكبات الوطنية المتتابعة أفادت أصحابها جملة أو جملتين من درس طويل، احتل قاعة واسعة شاسعة ابتلعت العراق وتجاوزته إلى دول الجوار. ولكن…….

Untitled

حين بدأت الانتفاضة السنية بالظهور إذا بأولئك الوطنيين يفاجئوننا بقولهم إن الانتفاضة عمت أو ستعم الوطن كله، وراحوا يستثيرون نخوة (أحفاد شعلان، وثورة العشرين)، متعلقين بأهداب إشارة من هنا وشاهد من هناك مهما كان ضعيفاً مطعونَ السيرة، مثل زيارة بعض الجهات الشيعية لمنصات الاعتصام. أو مظاهرة بائسة في الكوت أو البصرة هدفها تحسين الخدمات. وانطلق الملأ منهم يضخمون من شأن هذه الزيارات المكشوفة المقاصد، وفي غمرة الحماس نسي الوطنيون أنفسهم فإذا هم يرددون العبارة القديمة نفسها باللهجة نفسها “الانتفاضة تعم العراق شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، شيعة وسنة…..”!

المضحك أن العقل التقليدي يقع دوماً بمفارقة القياس مع الفارق. لكنه هذه المرة ليس وقوعاً، إنما سقوطاً، وسقوطاً مدوياً مضحكاً، يذكرني بتلك العجوز التي نزلت السلم مسرعة فعثرت في آخر درجاته وسقطت لتتدحرج أرضاً! ولما قامت تنفض ثيابها وتتلفت حولها فإذا بعض من أحفادها ينظرون إليها وقد خنقتهم الرغبة بالضحك، فما كان منها إلا أن قالت: ها؟ أعجبتكم الحركة؟ (!).

الحقيقة أن (الحركة) هذه المرة لم يكن لها ما يستر سوءتها. ولم ينتبه أصحابها إلى المفارقة المخزية التي وقعوا في مطبها.

فالمقاومة كانت تقاتل ملثمة، فلا أحد يعرف المقاوم من غيره، وهذا ما يسّر للكل أن يدعيها لنفسه وغيره عند الحاجة. وهكذا وجد الوطنيون أنفسهم في مأمن من انكشاف زيف دعواهم. لكن الانتفاضة اليوم لها شأن آخر. فأصحابها موجودون على الشارع العام، مكشوفو الوجوه، محددو المناطق. وبلغت الانتفاضة السنية يومها المئة، وقد ابتدأت في الأنبار وتوسعت، ثم توسعت.. لكنها لم تتجاوز المحافظات الست (بغداد، الأنبار، صلاح الدين، ديالى، نينوى، كركوك)، رغم كل ما بذله الوطنيون من جهد في استثارة ونخوة (أحفاد شعلان وعلوان)، وما ادعَوه ورددوه من تلك العبارات المكرورة “اللحمة الوطنية.. النسيج العراقي الواحد.. الشيعة العرب…”! وكان مثلهم كمثل الذين قال الله فيهم: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) (الجن:6). فالدعوى إذن مكشوفة مكذوبة! لا تقوم بالكلمات والشعارات، ولا تصمد أمام شهادة الواقع.

وتعقد الانتفاضة قبل أيام قليلة مؤتمرها الأول الذي انبثقت عنه هيئة عليا لقيادة الحراك، فإذا البيان الرسمي للمؤتمر يخرج سنياً يتبنى قضية سنّية (طائفية، مع الأسف): «إن قضيتنا اليوم إنما هي قضية مكوّن لا يقوم هذا البلد إلا بوجوده قويا عزيزاً»، وإن هذه اللجان ستبقى في حالة انعقاد دائم «للمطالبة بحقوق أهل السنّة والجماعة». وأكّد البيان النهج السلمي للحراك, لكنه في الوقت نفسه حذّر الحكومة من المماطلة والتسويف «وإلا فإن جميع الخيارات مفتوحة للحفاظ على الهوية والحقوق»!!!

ألم أقل لكم: “الوطنية بالعراق في خطر يا سادة..!”؟

_________________________________________________________________________________

  1. – رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى