الهجوم على سجني التاجي وأبي غريب (1)
د. طه حامد الدليمي
هذا ما حدث
20 رمضان 1434
مع حلول الظلام ليلة الإثنين الماضي الموافق لـ(13 من رمضان 1434) تعرض سجن (بغداد المركزي) في أبي غريب غربي العاصمة بغداد وسجن (الحوت) في التاجي شمالي العاصمة، إلى هجوم كبير تم فيه تحرير مئات السجناء. الهجوم تبناه تنظيم القاعدة، وأصدر فيما بعد بياناً بذلك.
ارتسمت البسمات على الشفاه، وانطلقت الألسن بالدعوات، وتبادلت الهواتف التهاني والتبريكات. بينما أصابت الخيبة والإحباط قلوب الشيعة، وارتسمت علامات الرعب على وجوههم، وظهرت على تصرفاتهم.
الحدث بطولي بكل معنى الكلمة، وبكل القياسات. ولا يماري في ذلك إلا من قال الله تعالى فيهم: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (النمل:14)! فما حقيقة ما حدث؟ ما جذوره؟ وما مآلاته؟
هذا ما حدث
عنوان كبير لا أدعي أن بإمكاني حالياً الجواب عنه كما ينبغي؛ ولأني أعلم أن الأمانة عظيمة والكلمة ثقيلة تأخرت في الكتابة، كيف لا والله تعالى يقول: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) (المزمل:5)! هل انتبهت: (قولاً…… ثقيلاً)! هذا وإن من طبيعة أي واقعة أن تكثر فيها الروايات وتتضارب فيما بينها، وتتدخل فيها الظنون والأهواء، حتى إن البعض ليروي الحدث – له أو عليه – كما يتمنى أن يقع لا كما هو قد وقع. وحين يصبح ما كان في خبر كان وينتقل إلى بطون التواريخ والكتب ستكون له رواية أَخرى وحكاية مختلفة تروى.
ما كتبت إذن محاولة لنقل صورة تقريبية لما حدث. استعملت الهاتف وشاهدت الشاشة، وحركت أزرار الشبكة، والتقيت هذا وذاك، ومنهم على صلة بالميدان ولهم وسائلهم في استحصال الخبر، وعرضت ذلك كله على سمعي وبصري وفؤادي، فتكونت لدي هذه المعلومات والأفكار أضعها بين أيديكم، وأستغفر الله من التقصير:
بدأ الهجوم بضرب القطعات العسكرية في المناطق المجاورة للسجون من أجل تشتيت نظر العدو عن الهدف الحقيقي، وتثبيته في هدف آخر وهمي، ولعرقلة تحرك قواته فيما بعد؛ وهذا استدعى أيضاً ضرب نقاط التفتيش وقطع الطرق الرئيسة. كان الهجوم قوياً صاعقاً مفاجئاً. يقول أحد ضباط الفرقة التاسعة المحيطة بسجن التاجي: بعد الإفطار بقليل تعرض مقر الفرقة والوحدات التابعة لها إلى قصف عنيف بالهاونات والقاذفات الأنبوبية (راجمات الصواريخ)، كانت القذائف تسّاقط علينا كالمطر! ما أدى إلى هروب أعداد كبيرة من الضباط والجنود وقد شقوا طريق الهرب بصعوبة بالغة. كان الضابط يروي ذلك وهو يبكي، ويتساءل: من أين لهم هذه الكميات من الأعتدة، وتلك الأنواع من الأسلحة؟! ويقول: لن أعود إلى الخدمة مرة أخرى!
الشيء نفسه تكرر مع سجن أبي غريب: ضرب القطعات التي ترابط في المنطقة، مهاجمة نقاط التفتيش التي تسيطر على الطرق المؤدية إلى مبنى السجن، ثم اقتحام المبنى عن طريق تفجير السيارات المفخخة لهدم الجدران وفتح المنافذ، واستعمال الأحزمة الناسفة، والتقدم نحو أبراج المراقبة واحتلالها والاستيلاء على الأسلحة المنصوبة عليها واستعمالها ضد حمايات السجن، ثم الدخول إليه بمختلف الأسلحة الرشاشة ومنها الـ(البِي كَي سِي). تركز الهجوم على القسم السابع، وفيه (600) معتقل معظمهم من تنظيم القاعدة، أحرقت القاعات (والوقائع مشابهة في سجن التاجي) ما اضطر الحرس إلى فتح الأبواب المقفلة. وقد تزامن الهجوم مع فترة التعداد المسائي؛ وهذا ساعد على تحرير أعداد أكبر من الأسرى. وتعالت أصوات التكبير تعانق نسيم الحرية الذي يلاعب سعفات النخيل المتدلية ويقبل شعفاته العالية.
سقط أغلب أفراد فوج حماية السجن بين قتيل وجريح (عدد أفراد الفوج بين 300-400 جندي، وقد يبلغ الألف في ظروف العراق الأخيرة)، ويقال: إن “سيف معارچ الإمارة” مدير السجن قد نحر نحراً بالسكاكين.
وقد حصل اضطراب واختلاط بين القوى العسكرية الحكومية فصار بعضهم يرمي على بعض ويقتل بعضهم بعضاً. استمرت المعركة بضع ساعات، ولم تحسم إلا بعد تدخل الطيران العسكري. أما القتلى والجرحى فقد قام الجانب الشيعي بتوزيعهم على المستشفيات ولم يقتصر بهم على مستشفى واحد كي يتستر على خيبته.
أصاب الهلع نفوس الجيش والقوى الأمنية، حتى إن معظم منتسبي الفرقة/17 المرابطة في أبي غريب تركوا ثكناتهم وهربوا بمن فيهم قائد الفرقة الخائن اللواء ناصر الغنام الهيتي، الذي أعلن استقالته، ويقال: غادر البلد هارباً إلى القاهرة. وترك معظم أفراد السيطرات الأمنية في الأحياء والمناطق المجاورة (السيدية، الغزالية، أبو غريب، الرضوانية) مواقعهم وهربوا.
المعركة كما يصفها بيان القاعدة
وصفت القاعدة ما جرى في بيان لها جاء فيه: العملية بدأت في الساعة التاسعة ليلة الثالث عشر من شهر رمضان حيث انقض وبصورة متزامنة على البوابات الرئيسية والجدران الخارجية للسجنين بموجات من السيارات المفخّخة فكان عدد السيارات المفخخة التي تمّ تفجيرها بداية الغزوة على بوابات وجدران السجنين وبعد انتهائها على قوات الإسناد التي وصلت الموقعين (12) سيارة مفخخة بمختلف الأحجام. في الوقت الذي تم فيه قطع الطرق المؤدية لكلا السجنين وهما طريق (بغداد – أبي غريب) وطريق (بغداد – الموصل) بعد القضاء على نقاط التفتيش المنتشرة على الطريقين وإبادة أو تشتيت عناصرها، ترافق ذلك مع استهداف قوات الجيش القريبة من الموقعين في مقر لواء المثنى ومعسكر التاجي بصواريخ “غراد” ورشقات متتالية من قنابر الهاون، حيث تمّ تأمين الطرق المؤدية للموقعين بالكامل وشلّ حركة قوات الإمداد الأرضية وحركة الطيران، لتبدأ مرحلة الاقتحام .
استمرت الاشتباكات مع حراس السجن وقوات الحماية داخلها وعلى الأبراج المحيطة بها لعدّة ساعات، حيث تمت السيطرة على كل الأبراج وقتل وإصابة من فيها، وتمشيط الأبنية من الداخل مع المفارز التي تحررت داخل السجن والتي سبق تسليحها بالبنادق والمسدسات والأحزمة الناسفة بعد اختراق المنظومة الأمنية للسجنين في وقت سابق من قبل الجهد الأمني للدولة الإسلاميّة.
وقال البيان في غضون ساعات قليلة تم تحرير المئات من أسرى المسلمين ما يزيد على (500) وقد تم سحبهم وإخلاؤهم لأماكن آمنة. وتم خلال العملية قتل ما يزيد على (120) وإصابة العشرات غيرهم من القوات المكلفة بحماية السجنين وقوات الإسناد الخاصة “سوات” التي وصلت الموقعين، كما تم تدمير معظم الأبراج والمنشئات وإحراق العجلات العسكرية التي تعذر سحبها من الموقع، وقد قتل أثناء الاشتباك عددٌ من الأسرى وأصيب عددٌ آخر.إ.هـ.
هذا وأغلقت المنافذ الحدودية من جهة سوريا والأردن منعاً لهروب السجناء المحررين باتجاههما.
يبدو أن سجن التاجي لم يهرب منه أحد من الأسرى؛ ربما لكون السجن واقعاً داخل ثكنات الوحدة العسكرية وهذا هو الراجح إلى الآن.
هذا مبلغ العلم في ما حدث.. وسأتناول في الجزء الثاني بعض تداعيات الحدث، وأشير إلى جذوره ودوافعه ومآلاته.