مقالات

الهجوم على سجني التاجي وأبي غريب (2)

د. طه حامد الدليمي

التداعيات والمآلات

20 رمضان 1434

من تداعيات الحدث

عم الرعب أوساط الشيعة في أنحاء العراق. وربما عدنا لهذا الموضوع في مناسبة لاحقة. وارتفعت معنويات السنة، وتبينت خيوط (بيت العنكبوت) واضحة للعيان. وتجاوز الأمر نطاقه المحلي إلى العالم الخارجي، فقد أصدرت الشرطة الدولية (الانتربول) تحذيراً دولياً بشأن السجناء الهاربين، معتبرة اقتحام السجنين يشكل تهديداً كبيراً للأمن الدولي.

وانفرج الحدث عن خلاف كبير داخل الصف الشيعي واتهامات متبادلة. فنوري المالكي اتهم جيش المهدي بالتواطؤ، ووصفه بأن أفراده يعملون الموبقات باسم الدين، ومقتدى يدعوه للاستقالة. وألقى السفاح وزير العدل حسن الشمري بالمسؤولية على الشرطة الاتحادية. أما المجرم حاكم الزاملي عضو لجنة الأمن والدفاع في مجلس النواب فاتهم الجهات الأمنية بالتقصير الفاضح، وقال: لو استمر الهجوم ساعات لدخلوا “المنطقة الخضراء”! كما أصدر المالكي أمراً بطرد مدير عام دائرة السجون وإحالته للتحقيق، وحجز رئيس أركان الفرقة الرابعة في الشرطة الاتحادية وعددٍ من الضباط منهم آمر فوج الشرطة المكلف بحماية السجن ومعاونه، وأفرادِ استخبارات الشرطة الموجودين داخل السجن، وعناصرِ الشرطة الاتحادية المكلفين بحماية السجن أثناء الحادث، وإحالتِهم إلى القضاء.

بعد انتهاء المعركة طوقت القوات الأمنية والعسكرية قضاء أبي غريب والتاجي والمناطق المجاورة وفرضت حضر التجوال ومنعت الأهالي من الخروج وقطعت عنهم الأرزاق، وما زالوا محاصرين منذ سبعة أيام، رغم استغاثاتهم والنداءات المتكررة وطلب المدد من الغذاء والحاجات الأساسية، وصراخ بعض النواب السنة، ولكن دون جدوى!

من أسوأ تداعيات الحدث الإعدامات الجماعية للمعتقلين في سجن التاجي ولمن تبقى من المعتقلين في سجن أبي غريب. والعجيب أن جل تلك الإعدامات جرت على أيدي مليشيات شيعية دخلت السجن وبدأت بالانتقام من المعتقلين السنة تعذيباً وقتلاً، في ظل حكومة تسمي نفسها بـ(دولة القانون)!

تفسير الحدث

الصورة الكاملة للحدث لا تتم إلا باستحضار أبعاده الثلاثة:

1. جذور الحدث ودوافعه الخفية التي من دونها لا يفهم كما هو.

2. الحدث نفسه كوقائع جرت على الأرض.

3. تداعياته القريبة ومآلاته والبعيدة.

ورابعة أُخرى، هي العبر المستفادة والدروس المستنبطة.

ما كتبته آنفاً لا يمثل إلا طرفاً من البعد أو الجزء الثاني. أي إنني – إلى الآن – لم أعرض سوى أقل من ثلث الحقيقة!

وإليكم مثالاً عن البعد الثالث لأي حدث، أسوقه لكي يتعرف القارئ على مأساة الكاتب أو المفكر الذي لا يقيس الحدث بوقائعه فقط – كما تقيسه العامة – دون الغوص في جذوره، ثم التحليق عالياً لاستشراف مآلاته: في سبتمبر/2000 كنت ضمن الفرحين بما حل بأمريكا جراء تفجير أبراجها في منهاتن. كانت الفرحة غامرة، والضجيج عالياً بحيث لم يكن ثمت فرصة لأن تلتقط الآذان بعض الأصوات الخائفة من القادم. وقد اعتبرتها يومئذ علامة على ضعف أصحابها. لم أكن أدري أنها مقدمة بعيدة لغزو العراق، وأن العد التنازلي لسيطرة الشيعة على البلد، واحتلاله وغيره من دول المنطقة، من قبل إيران: قد بدأ. صعب على العقل أن يربط بين هذا وهذا. كنا مأخوذين بروعة الحدث. وقد قيل إن الفاعلين استدرجوا من قبل العدو لارتكاب هذا الفعل، لكن كم عدد الذين أصغوا إلى ذلك!

واحتل العراق فكانت المقاومة حدثاً رائعاً أُخذت به الألباب فانشغلت بالوقائع عن المتوقع. وإذا كان كثير من العراقيين يدركون اليوم مغزى كلامي، فإن جمهور الأمة – كما يبدو – غير مهيإين لذلك.

بيئة تفتقر إلى الحرية الفكرية، تسارع بالتهمة وقصد المؤامرة ضد كل من يتكلم بما لا يروق لها. جمهور ما زال في عمومه يبحث عن أسباب الفشل خارج نطاق الذات رغم أن له كتاباً منزلاً من لدن الله ينادي صباح مساء: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:165)! إذا أحب قدّس، وإذا كره رجّس. يتسيد ساحته مجانين العقلاء وهم أخطر من عقلاء المجانين. ما زال يسير على خطى الثوريين في مقولتهم الشهيرة “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.. هكذا أخرج العقل من الميدان.

لا يراجع ماضيه ليستفيد من صوابه وخطإه في حاضره.. هكذا يعيد التاريخ علينا دورته؛ لأنه هو الذي يقرأنا، لا نحن الذين نقرأه. وهكذا حصدنا – خلال السنين العشر السابقة – أسوأ النتائج لأعظم التضحيات. لقد خاضت المقاومة العراقية (السنية) مئات المعارك البطولية بمستوى المعركة الأخيرة (اقتحام السجون)، وأكبر وأصغر، لكن ذهبت تلك الجهود الجبارة كلها مع الريح. وحتى اللحظة لم يعقد مؤتمر للبحث في هذه المفارقة الكارثية الهائلة!

الحماس والتفكير اللحظي هو النمط الغالب على الشخصية الجمعية لجمهورنا الحبيب. رصاص البندقية أغلى عنده من رصاص القلم. تقاس الإنجازات عند الكثيرين منه بالأقدام لا بالأقلام. النفوس مجروحة، والأعصاب تالفة، والعاطفة المستثارة تفرغ شحنتها عند أول عارض لتعود إلى الشحن من جديد.

في مثل هذه الأجواء المكهربة يكون كل المطلوب من العقلاء أن يسايروا التيار أو يصمتوا. وبين هذا الضجيج والعجيج مرت عليه المؤامرة! وما زالت تمر. وحين يتكلم الخبير عن (الجذور والمآلات)، بل عن الوقائع الأقرب للحقيقة كما يرى، يتهم بشتى التهم. باختصار نحن في زمن أشبه بزمن الغوغاء.

وأضرب لكم مثالاً خفيفاً:

الاستثمار والاستمرار

كل جهودنا التي بذلت على مدار العقد الماضي ينقصها – من ضمن ما ينقصها – شيئان: القدرة على الاستثمار الصحيح للحدث، ثم التقدم به إلى الأمام في إنجازات متساندة باتجاه الهدف. فينبتر الجهد ويموت، ولا يكون للثمن المدفوع ربح أو قيمة موازية.

لم يكن يقل حاكم الزاملي عبثاً: إن الهجوم لو استمر ساعات لاحتلت “المنطقة الخضراء”. وعند انعدام القدرة أو ضعفها أو عدم استثمارها للتواصل والاستمرار في إنجازات يبنى بعضها على بعض تكون جهودنا مثل جزُر متباعدة منقطعة عن بعضها تغرق باستمرار في محيط متلاطم بالأمواج. إن هذا يلقي شيئاً من الشعاع على حاجتنا إلى مشروع مدني يفكر بعمق، يحدد الأهداف، ويرسم الخطط، ويحصر الموارد، ويضع الآليات، ويضبط التوقيت. ويعرف كيف يستثمر الحدث قُدماً، وكيف يتقي أو يعالج أو يتعامل مع نتائجه وإفرازاته الضارة.

الحقيقة أننا ما زلنا نسير على طريقة الكر والفر في الحرب. والإنجازات الجبارة منقطعة عن سياقها، مثل فلاح يغرس أرقى الشتلات لكنه لا يسقيها. خرج مئات من المعتقلين، فاعتقل بدلهم مئات آخرون، وحوصرت مناطقهم ودخلت مدن بكاملها في نطاق الأسر والاعتقال. وأعدم عشرات السجناء والعدد مرشح أن يبلغ المئات وربما الآلاف، وشددت إجراءات الأسر وطرق التعذيب!

ثم لا ندري هل ما زال كثير من أولئك المحررين على نظرتهم القديمة للمجتمع السني؟ أم حصل تصحيح وتغيير؟ فإني أرى – كما يرى كثيرون – أن هذه العملية البطولية الكبيرة، بشهادة الجميع، فرصة ذهبية أمام القاعدة لإعادة تجسير العلاقة مع الحاضنة السنية التي ضعفت كثيراً في المرحلة الماضية، ويمكن أن تكون نقطة تحول، وصفحة جديدة تفتح على أنقاض صفحة يجب أن تقلب. وعلى تنظيم القاعدة الوقوف طويلاً والتفكير عميقاً في هذه المسألة، وحذارِ أن ينظروا إلى هذا الكلام خارج نطاق النصيحة.

كم من القراء في هذه اللحظات يحتمل مثل هذا الكلام؟ فيأخذه على ظاهره دون أن يخوض في النوايا، ويمسك بيده مشرط التنقيب عن القلوب!

هذا وأنا لم أغُصْ بعدُ شبراً واحداً بحثاً وراء “جذور الحدث”. ولم أحلق إلا قليلاً فوق تداعياته ومآلاته! أخذاً بحكمة معلم أهل العراق سيدنا الجليل ابْنَ مَسْعُود رضي الله عنه يوم قال: “مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلا كَانَ لبعضهم فِتْنَةً”. رواه مسلم. وقُدماً قال الشاعر العربي:

ليسَ الغبيُّ بسيدٍ في قومِهِ لكنَّ سيدَ قومِهِ المتغابي

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى