لو تكرمتم يا ( كبار العلماء ) ! أي علم أنتم فيه كبار ؟ (1)
د. طه حامد الدليمي
يوم الخميس الماضي 5/9/2013 وبينما أنا أتقلب بين القنوات الإخبارية شاهدت بياناً يتلى من إحداها باسم (كبار علماء العراق). استغربت اللقب إذ لم أسمع به من قبل، وتساءلت في نفسي عن الجهة المخولة بمنح هذه الألقاب في هذا البلد والزمن المضطرب؟ أم إنه تقليد ومحاكاة للآخرين؟ تبين لي بعد قليل أنه (بيان ختامي) لـ(لقاء تشاوري) انعقد يومي 22،21/8/2013 بين مجموعة من شيوخ الدين العراقيين (تداعوا) من أكثر من قطر لاجتماع يبدو أنه عقد في عمّان بشأن (الأحداث المتسارعة التي تجري في الساحة العراقية من قتل وتهجير وانتهاك للحرمات وزج للعراقيين في السجون والاستهانة بإنسانية الإنسان العراقي). ولم يذكر البيان أهل السنة بكلمة واحدة، وكأن الظلم واقع على العراقيين جميعاً بدرجة واحدة ودوافع واحدة! ومن جهة واحدة هي الحكومة فقط وأما بقية المجرمين فصدى وتبع لها، وبوصفها حكومة ظالمة لا لكونها شيعية تسلط الظلم طائفياً على السنة فقط. وهذا من خيبة البيان وكون أصحابه بعيدين كل البعد عن أصل وحقيقة المأساة. وأنهم اجتمعوا لا من أجل السنة العرب وإنما من أجل العراقيين جميعاً؛ فلماذا يريدون من السنة اتباعهم وهم لا ينطقون باسمهم؟!
وتساءلت أيضاً: في أي علم له تعلق بإنقاذ المجتمع المنهار هم كبار؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم قسّم العلم إلى نافع وغير نافع، وكان يستعيذ فيقول كما روى مسلم عن زيد بن أرقم: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لا تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لا يُسْتَجَابُ لَهَا). ليس المقصود بهذا السؤال نفي العلم مطلقاً عن المجتمعين؛ فمنهم من هو متخصص بعلم (الفقه) ومنهم بالحديث ومنهم بالأصول وربما اللغة وما شابه من العلوم التي تدرس في المدارس الدينية وجامعاتها. إنما المقصود العلم الذي يؤهلهم للكلام في شؤون العامة لا سيما الشأن السياسي والاجتماعي، ويمكنهم من وضع حل عملي واقعي ناجع لمأساتهم. وإلا كان علمهم من الصنف الذي كان يستعيذ منه رسول الله!
الفقيه القائد .. وما عداه فزائد محله الهامش
ليس الإسلام عبادة مجردة عن القضية، بل هو قضية أساسها العبادة.
إن هذا يستلزم من (العالم) بالدين أن يكون مصلحاً اجتماعياً بحق، وليس مدرساً للفقه أو أستاذاً جامعياً متخصصاً بالفقه والعلوم الخادمة له فحسب. أي عليه أن يكون – عن جدارة – صاحب قضية اجتماعية يسعى لنصرتها من خلال مشروع قادر على مواجهة المشاكل الاجتماعية الحقيقية على هدى من الله ونور من كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أي يكون مصلحاً لا صالحاً فقط، وقائداً لا قائلاً فحسب؛ فبالقيادة وحدها يكون العالم وريثاً للنبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يكن نبينا مجرد عالم صالح – كورقة بن نوفل وطائفة الأحناف في زمانه – بل كان قائداً مصلحاً يحوّل العلم إلى منهج حياة وبرنامج عمل لبلوغ هدف اجتماعي محدد هو تكوين دولة الإسلام.
نحن ورثة محمد لا ورثة ورقة يا (كبار العلماء)!.
إن هذا يستلزم – بدوره – أن يكون (العالم) ملماً بعلوم حديثة ما عاد الزمن يسع الجاهل بها، منها علم الاجتماع والنفس، وكيف يحول هذه العلوم إلى مفردات واقعية. كما أن عليه أن يُلم بالسياسة كعلم وكممارسة، ويتابع الحوادث على المستوى الداخلي والخارجي، ويعرف الواقع كما هو لا كما يرغب أو يتخيل. ومن العلوم التي لا يستغني القائد عن معرفتها علم الإدارة والقيادة. وهؤلاء (العلماء) أنفقوا أعمارهم في دراسة علوم أُخرى لا علاقة لها بكل ذلك.
ولنبدأ من حيث انتهى البيان، ونتوقف عند علمين من العلوم التي لا بد من التمرس بهما لكل من تكلم بأمر العامة هما السياسة والاجتماع. ولنناقش علم السياسة ثم نرجئ علم الاجتماع إلى لقاء آخر.
السياسة
تحت عنوان (دعوة) ختم البيان بهذه العبارة التي تمثل خلاصة ما اجتمعوا من أجله: “يدعو المجتمعون جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي والمنظمات الدولية الإنسانية والحقوقية؛ للوقوف إلى جانب الشعب العراقي في محنته”.
من المعروف عن المجتمعين أنهم يدعون لإسقاط الحكومة الحالية، وينصحون الناس بالانفضاض عنها ومقاطعة العملية السياسية التي جاءت بها. هل يعلم المجتمعون أن دعوتهم الجهات المذكورة عربية كانت أم عالمية “للوقوف إلى جانب الشعب العراقي في محنته، وإنصاف العراق وإيلائه ما يستحقه من اهتمام” ليس لها من تفسير عند التنفيذ غير الوقوف إلى جانب الحكومة، أو التصرف من خلال قنواتها الرسمية، ولا يحق لدولة أن تتدخل إلا من خلال وزارة الخارجية العراقية! فالجامعة العربية – مثلاً – إذا افترضنا أن لها أذناً تسمع بها هذه الدعوة وأرادت ترجمتها إلى واقع ملموس، فإنها ستفعل ذلك من خلال الحكومة الرسمية وبإذنها وموافقتها، تماماً كما أنها إذا أرادت أن تقدم دعماً للفلسطينيين فمن خلال الحكومة المعترف بها عالمياً. أي إن المجتمعين – في حقيقة الأمر – إنما دعوا الجامعة العربية والمنظمات العالمية للوقوف إلى جانب الحكومة التي يدعون لإسقاطها! فالمنظمات الدولية ليست مضيفاً في قبيلة تسوى الأمور فيه بالنخوة والتراضي وتبويس اللحى.
إن ضعف إدراك المعنيين للغة السياسة بسبب بعدهم عنها نظراً وممارسة، وراء اشتراكهم – دون وعي – في جلب الكوارث على أهل السنة؛ فهم لا يدرون – مثلاً – ماذا يعني تعويم الكلام عند الحديث عن المآسي والجرائم التي ترتكب في العراق اليوم فيشملون بها “العراقيين” جميعاً، ماذا يعني ذلك من تضييع لحق المكون الأكبر في لحوق الظلم به وهو (أهل السنة) وغفلة العالم عن مأساته، ومن مشاركةٍ في عدم تدويل قضيته. وإن كانوا لا يجهلون دلالة كلمة (العراقيين) في لغة السياسة، وإنما يتجاهلون ذلك لغايات مقصودة وحاجات في نفوسهم موجودة، فالتجاهل أكثر إيغالاً في الجرم من الجهل.