مقالات

من أسرار الحياة

د. طه حامد الدليمي

1378_21301471757-308x184

عندما يعمل الإنسان في مسار يكتنفه المخالف والخاذل من جانبيه، تزدحم المشاكل وتكثر التضحيات، فيضطر إلى التلفت من بين يديه ومن خلفه ويتساءل: كيف يمكنني الاستمرار مع هذه الحال؟ بل قد يصل التساؤل إلى حد: هل علي مواصلة المسير أم التوقف؟ وإذا كان التوقف معناه الموت؛ إذ الحياة بلا قضية هيكل فارغ وإطار بلا مضمون؛ فلا بد من وقود لإدامة الحركة، ولا بد من زاد لبلوغ الهدف.

لا بد من الدوس على جثث الأحبة ..!

في منتصف سنة 2000، بعد أن فقدت أعز الأنصار ووقع على كاهلي حمله الثقيل، وتطلب ذلك مني المرور وحيداً في الطرقات التي كنا نسلكها معاً، وقد كان لي في كل بقعة على طول المدى شاهد يثير مشاعر الأسى، وفي كل منعطف شاخص يشحذ ذاكرة الحزن: وجدت نفسي أمام حقيقة لخصتها بهذه العبارة: “لا بد لمواصلة السير من الدوس على جثث الأحبة”! وهكذا شحنت نفسي بالطاقة التي كانت تلزمني للمرور في تلك الطرقات، ومحاذاة تلك المنعطفات.

فن مغالبة الحزن

ثم بعد تكاثر المصاعب وتلاحق المصائب وتوالي الأحزان، اخترعت شيئاً دعوته بـ(فن مغالبة الحزن)، ومنه التشاغل عن الذكريات بتجاهلها، وهو ما يسمى في علم النفس بـ(الانسحاب Withdrwal)، استفدت منه كثيراً بعد الهجرة من العراق.

قصة ذي النون

ومن أعظم ما وجدته من وقود لإدامة الحركة ومنع التوقف قصة (ذي النون)؛ فقد كنت أقول لنفسي كلما هجست لي بشيء من ذلك: ومن يضمن لي أن لا أموت وشيكاً بحادث عابر أو مرض طارئ، أو أصاب بكارثة، عقوبةً لي على النكول عن العهد؛ فلقد عاقب الله تعالى نبياً من أنبيائه ترك قومه وهجرهم سأماً ومغاضبة فكان جزاؤه بطن الحوت! فمن أنا أمامه؟! وقد أشرت إلى هذه الحقيقة في أكثر من كلمة وقصيدة:

إني وإن نعقَ الغرابُ بشُرفتي
يترنمُ العصفورُ في شبّاكي

كلا وما غلبَ الأسى يوماً على
أملي وإنْ خمدتْ شموعُ سُراكِ
( ذو النونِ ) في أُذُنِي صدى دعواتِهِ
و (الحوتُ ) يرصدُ غفلتي بِشباكِ

من أسرار الحياة

فهم أسرار الأقدار وعلاقتها بالأسباب، والتأمل العميق في حركة الحياة، والنظر البعيد الذي يلامس عواقب الأمور، واستخلاص العبر، وتلخيصها بعبارات وحِكم: هو مما يخفف عن المسلم همومه.

كتبت لي إحدى الأخوات من تونس الخضراء تقول:

“ضاق بي الحال وأحكم الاختناق شدته.. أخي، فما أتعس هذا الزمن الذي نحن فيه وكم هو ذليل حين رخص كل شيء، وما أضيق آفاقه حين تبحث عن متنفس!.. فتاقت نفسي أن تسمع منك كلمات في الصبر والتوكل”.

فكتبت لها أقول: “إن كل ما ترينه من أسباب التدهور والقهر والتقهقر – على المستوى الكلي أو الشخصي – يجري وفق سنة (الابتلاء) وقانون (الاختبار)، وليست الدنيا داراً لتحقيق العدل، إنما السعي إليه. أما العدل الكامل والرحمة الشاملة فزمانها يوم القيامة، ومحلها الآخرة إذ يقول الله جل في علاه: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (غافر:17).

هل رأيت المروحة كيف تدور؟ اللب الحديدي الذي تتصل به ريشاتها ينجذب إلى المجال المغناطيسي الذي يتولد من الكهرباء، التي اتصلت تواً بأحد الملفات على طول محيط المروحة الداخلي، وما إن يتحرك باتجاهه حتى تنقطع الكهرباء عن الملف الأول لتنتقل إلى الملف الثاني فيتحرك اللب باتجاهه فتنقطع إلى الثالث وهكذا حتى تعود إلى الأول في حركة لا تنتهي، سرها سعي اللب وراء المجال المغناطيسي الذي لن يدركه أبداً، ولو أدركه لتعطلت الحركة!!!

هذا هو سر الحياة: السعي وراء العدل دائماً، والسعادة أبداً. ولو تحقق العدل في الدنيا، ونيلت السعادة هنا على هذه الأرض لتوقفت حركتها، وفهّت لذتها! لذلك قيل:

عليّ أن أسعى وليس علي إدراك النجاحِ

فالسعيد الموفق من عمل بمراد الله وترك أمر أقداره إليه.

أما الماضي فأنا أحاول معالجته بالحكمة التالية: (الماضي عِبرة لا عَبرة)؛ فبكسر (العين) عنه ينشرح الصدر وينفتح الأفق، وإلا فإن فتح العين وتسريحها للبحث في كهوفه ومغاراته لا نرجع منه إلا بسود الخواطر وكسر الخاطر”.

قف إذن قليلاً وتأمل، لتتعلم وتكتشف. ولكن في إطار يزينه التفاؤل، ويوشيه الأمل؛ من أجل أن تكون الأسرار عوناً لنا لا علينا، وردءاً يخفف عنا لا عبئاً يثقل كواهلنا؛ فالدنيا بحذافيرها لا تساوي حزن ساعة؛ لا سيما إذا نظرت في الأجر الموهوب، وقيمة السر الكامن في القدر المكتوب.

11/10/2013

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى