لا قائد بين جمهور لا يقاد
د. طه حامد الدليمي
قلت في المقالة السابقة: “ثقافتنا تصنع للقادة في ذهن الجماهير صورة زاهية أشبه بالأساطير. وحيث أن الأساطير لا توجد إلا في ثنايا السطور فلن تلد مخيلة الناس ذلك القائد الأسطورة الناشب في أحشائها، إنما يموت دوماً ويختنق أثناء الطلَق. أو تنفرج الظروف عن رجل من جنس الجمهور نفسه يسوق الناس بعصاه.
وبين القائد الأسطورة المفقود والقائد المتجبر الموجود يعيد التاريخ نفسه”.
ثقافة مخالفة لمنهج القرآن العظيم
وهذا منهج مخالف لمنهج القرآن العظيم؛ فإن أعظم القادة هم الأنبياء عليهم السلام.
لقد قص ربنا علينا من شأنهم أموراً عاتبهم عليها عتاباً يتجاوز أحياناً عتبة اللوم إلى ما أترك التعبير عنه للقرآن وحده: (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (هود:46). وهل تعلم لمن وجه الله سبحانه الخطاب التالي: (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (الأنعام:35)؟!
هل يتحمل جمهورنا أو يصدق أن صلاح الدين كان يشرب الخمر ولم يتب منه إلا بعد أن صار سلطاناً على مصر واستنقذها من قبضة الفاطميين([1])؟
وبعد مدة ليست طويلة من انطلاقة الحراك اتصل بي أحد قادته يشكو إلي حرجه أمام الجمهور الذي يريد منه أن يقوده ولكنه لا يدري كيف يقود؟ ولا ماذا يصنع؟
قلت له: إن “المسؤولية على قدر الصلاحية”؛ فما هي الصلاحيات التي منحك إياها الجمهور؟ هل جمع لك المال وبايعك الرجال ومنحوك السمع والطاعة؟ قال: لا.
قلت: هل يمكن أن يتوحد سواد الجمهور ويسير خلفك؟ قال: لا.
قلت: فكن أنت السائل لا المسؤول. والجمهور أولى بالحرج منك؛ لست ملَكاً ولا عفريتاً حتى يمكنك قيادة قوم أنت وهم على هذه الحال. ولك عبرة في قصة طالوت والملأ المتحمسين (إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (البقرة:246).
يمكنني، أيها الشيخ، أن أسوّق نفسي الآن كقائد أوزع البشائر البراقة والخطب الرنانة والوعود الخلابة. لكن ما هي النتيجة التي تتخيلها مع هذه الجموع التي لا رابط بينها غير الظلم المشترك، فلا عقيدة واحدة، ولا هوية واضحة، ولا هدف متفق عليه، ولا حزمة قيادية ميدانية يثق بها الجمهور فيرتبط بها ويسلس قياده لها، ولا آليات ولا موارد، ولا خطة.
الجمهور يريد قائداً يضفي عليه صفات الملئكة، ويوم يكتشف أنه ليس كذلك يرجمه بحجارة الشياطين.
كان هذا قبل ثمانية أشهر، يوم كان الجميع يخطب ود المعتصمين، فالمنصات تعج بالسياسيين.. والعشائر والأحزاب والهيئات تنصب خيامها وتضع عناوينها، كل يطمح لا لقيادة السنة فحسب؛ (هذا تقزيم!) بل العراق كله؛ وهذا واضح من شعاراتهم ومطالبهم.
هل من مستفيد ..؟
والآن………..
أين تلك الخيام؟ وتلك الهيئات والأحزاب؟ وأين السياسيون: المخلصون منهم والمتصيدون؟
والسؤال الأهم: هل من مستفيد من الحدث؟
كم يغزوني الأسى على تلك الثلة المخلصة من أهلنا، الذين لديهم الاستعداد للبذل والتضحية حتى الموت! لكن أين من يستثمر كل قطرة من دمها في مشروع ينفتح نهراً ينبض بالحياة؟
وبعد.. فمعظم هذا الجمهور لا يعرف للخلاص إلا سبيلاً واحداً هو.. السلاح. وتستفزه بطولات الشجعان وماذا يفعلون ببني سكسون أو صفيون؛ فيندفع خلفها لا يلوي على شيء، ولا يسمع لشيء. ثم………
في النهاية لا يأتينا بشيء!
ونحن مع السلاح ولكن بشرط أن ينطلق من مشروع. كفانا تضحياتٍ عشرةَ عقود، ختمناها بعشر سنين دحرنا فيها أكبر قوتين عظميين، لكن…. عجزنا عن حماية أرضنا وعرضنا وكرامتنا واستخلاص حقنا من بين أنياب الثعالب والكلاب!
المشروع المدني القائم على تدريب القادة، وتأهيل الجمهور، وربطه بالقيادة هو الطريق نحو قيادة الجمهور. ودون ذلك (خفة الطير وأحلام السباع)!
اسأل عن القائد. ولكن….. قبل أن تسأل عن القائد، اسأل عن الجمهور: هل تم في حقه الإعداد؟ وهل…… هو قابل للانقياد؟ فالقائد لا يكون قائداً في جمهور لا يمكن أن يقاد.
الإثنين
3/11/2013
_________________________________________________________________________________
- – انظر مثلاً: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، بهاء الدين بن شداد. الرابط:
http://shamela.ws/browse.php/book-12716/page-344. ↑