د. طه حامد الدليمي
كثيراً ما يطرح هذا السؤال: كيف يرضخ السنة الذين دوخوا الدول العظمى في حرب تلاحقت معاركها تسع سنين حسوماً حتى أجلوهم عن العراق صاغرين، ثم ها هم يرضخون لثلة أقزام يلعبون بدمائهم وأعراضهم ويتحكمون برزقهم ومصيرهم كما وكيف يشاءون؟!
وأجيب: للظواهر الجمعية أسرار وقوانين تحركها، غير تلك التي تحرك الفرد. والحروب والثورات والتظاهرات وأمثالها، ظواهر جمعية لا فردية؛ فلها أسرارها وقوانينها التي تحركها، وتفسرها أيضاً.
الشعوب تثور جمعياً .. وتخضع فردياً
بتفصيل أكثر أقول: إن الشعوب تثور جمعياً، وتخضع فردياً.
فكأنها في ثورتها شخص واحد لكنه بأعضاء كثيرة كانت مفككة ثم التأمت فأصبحت جسداً واحداً!
وحتى يتم هذا الفعل الجبار نحتاج إلى محرك قوي جداً يجمع تلك الأعضاء وينسق بينها ويسلكها في اتجاه واحد: إما من داخل أعضاء المجتمع، أو خارجه.
أما المحرك الداخلي فعبارة عن فعل جاذب للانتباه، يتمثل في حدث كبير يشكل ظاهرة جمعية قادرة على إثارة أكبر عدد من أفراد المجتمع وتفجير طاقتهم الكامنة، وتحريك مجموعة منهم تكون نواة لإشاعة الحركة في بقية الأفراد. مثل جيش أجنبي يغزو البلد، أو ظلم يتجاوز الحدود فيوحد النفوس حتى تكون كالجسد الواحد، ويشحنها بطاقة لا تحتاج إلا لسبب مباشر يقدح شرارتها فينتفض ذلك الجسد.
وأما المحرك الخارجي فعبارة عن فعل دافع للاتجاه، يتمثل عادة بقوة الدولة التي تدفع الشعب أو تجبره على خوض حرب أو مواجهة خطر يتطلب الاجتماع.
وكأن الشعب في خضوعه شخص واحد أيضاً، لكن عادت أعضاؤه الكثيرة إلى التفكك من جديد نتيجة استنفاد طاقته وتعرضه إلى تحدٍّ أكبر من حجمه. إنه ذلك الشخص نفسه الذي التأمت أعضاؤه أول مرة فانتفض كالمارد، لكنه الآن تفرقت أعضاؤه فبردت حركته وتبددت طاقته، وتحول إلى فرد مهما كثر.. فرد واحد مقطع الأوصال، ضعيف الحول بائس الحال لا تجد منه إلا الخضوع والخنوع. وقد تطول فترة خضوعه زمناً طويلاً حتى يتهيأ لها محرك جديد.
الشعب إذن يثور بفعل الحالة الجمعية التي تجمع أعضاءه وتنسق بينها معاً، ويخضع فردياً. وأقصد بالخضوع الفردي أن كل فرد من أفراد الشعب يتحمل ضريبة الهزيمة وحده دون إسناد جمعي؛ فلا يمكنه الانتفاض وحده لأنه يعلم أنه سيدفع ثمناً مضاعفاً هو عبارة عن حاصل جمع الأثمان التي ينبغي أن يدفعها كل فرد من أفراد المجتمع الخاضع المهزوم. وكأنه في خضوعه فرد ينوء كاهله بثقل أمة فلا يستطيع حراكاً وإن كان يتململ، بل هذه هي الحقيقة عينها. وهنا تتحول الحالة الجمعية للخضوع إلى معوق هائل أمام الأفراد كل لوحده إذا ما أراد أحدهم أو مجموعة منهم القيام بفعل جمعي.
والفرد لديه طاقة محدودة يستحيل عليها تحمل ثقل أمة بحالها ما لم يلتئم أفراد هذه الأمة فيكونوا كالجسد الواحد. كما جاء في الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
زعامات متخصصة بإضاعة الفرص
هكذا تثور الشعوب، وهكذا تخضع.
والثورة فرصة ينبغي أن تستثمر؛ لأنها من الصعب أن تتكرر، وإلا تحولت إلى غصة تطول، ومحنة ليس من السهل أن تزول. وتقع مسؤولية استثمار الفرصة على عاتق الزعامات المتصدية للتقدم أمام الناس. لكننا – ولله الحمد – ابتلينا بزعامات لا تصنع الفرصة ولا تستثمرها، بل تتمتع بموهبة عجيبة في تفويت الفرص وجلب الغصص.
إنها زعامات قديمة من مخلفات الماضي، أو جديدة من صنع ذلك الماضي البئيس. وهي لعنة على الشعوب أو الجماهير التي لا تحسن غير تقديم التضحيات ودفع أثمانها، أو اللجوء إلى العمالة والتمتع بثمارها، ومنهم من يحبط فينزوي ويصيبه اليأس والقنوط.
كم من فرصة تاريخية من الصعب أن تتكرر عرضت لنا خلال الأحد عشر سنة الماضية منذ احتلال العراق في 2003 إلى يومنا هذا في 2014، ساهمت تلك الزعامات الخائبة في تفويتها! وفي كل فرصة تَعرض وتفوت أثمان تدفع وعمالات تبلع وإحباطات تمنع، يتحملها الجمهور مستغرباً مستفهماً، وهو لا يدري أن العلة في تلك الزعامات المتخلفة، التي لا تملك غير الحماس وقوداً للثورة، وغير الكلام والإعلام علاجاً لحالة الخضوع؛ فلا استعداد ولا خطة ولا موارد ولا مشروع. ولا يشعر أنه يتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية في كونه يُهرع في كل مرة مستجيباً لنداء تلك الزعامات نفسها، ثم هو في كل مرة لا يستفيق من قديم ولا يستفيد من جديد.
المقاومة .. الحراك .. الثورة الحالية
انطلقت المقاومة العراقية – وهي سنية خالصة – وكان الفعل المثير الذي حرك الجمهور من الداخل هو الاحتلال الأمريكي. وكانت – حقاً – فرصة تاريخية لا تعوض بسهولة لو أحسن السنة استثمارها في بناء كيانهم وحمايته من العدو الأكبر وهو الشيعة ومن ورائهم إيران.
لكنهم ضيعوها لسببين أساسيين، هما وراء كل الكوارث التي حاقت بنا: الأول: ضياع الهوية السنية وذوبانها في أحشاء الهوية الوطنية. والثاني: فقدان المشروع المدني الذي يشكل الجسم الذي منه ينطلق أي عمل أو نشاط وعلى رأسه العسكري والسياسي. وهكذا برد الجسم وعاد إلى التفكك مجدداً، ولم يحصل السنة على شيء سوى الاتهام بـ(الإرهاب) وخراب الديار وذهاب الأنفس والأموال والأعراض، فضلاً عن الدين! والجمهور يتلفت ولا يدري من أين أُتي؟ وكيف حلت به الكارثة؟!
اللافت للنظر أن المقاومة لم تعقد مؤتمراً ولا ندوة، بل ولا اجتماعاً للبحث في أسباب هذه المفارقة الفاضحة: بذل أعظم التضحيات، وجني أكبر الخسارات، فهي كارثة بامتياز، ودليل على فشل المشروع القتالي وبامتياز أيضاً؛ فمن علامة المشروع الناجح أن يكون الخارج أكبر من الداخل. فكيف ولا مشروع. وكأننا في المقاومة كنا في مؤسسة خيرية (غير ربحية) تدفع للناس ثم تمسح يدها بالحائط فإذا هو مكهرب صاعق!
وجاءت فرصة (الحراك) بعد عام من جلاء الاحتلال الأمريكي، وكان الصاعق أو المحرك الداخلي هو الاعتداء السافر على وزير المالية د. رافع العيساوي. وكانت فرصة! لكنها أمست على شفا الضياع كما ضاعت المقاومة. والأسباب هي الأسباب ملخصة في العلتين هما هما: (ضياع الهوية وفقدان المشروع). وكنا قد حددنا موقفنا منه منذ البدء: “هذه ليست جولتنا، جولتنا القادمة إن شاء الله”. لكن هذا لا يعني أننا لسنا مع أهلنا بما نستطيع من النصيحة والتوجيه وتنضيج الفكر وغيره من وجوه الإسناد. وهذا ما كان.
سبق هذا الحراك مظاهرات في المناطق السنية انطلقت في (25 شباط/فبراير 2011)، وكانت خائبة حقاً لأنها: 1. لم تفجر بصاعق أو محرك داخلي حقيقي، إنما كانت مجرد صدى وتقليد لما سمي بـ(الربيع العربي). 2. ولأنها مزجت نفسها كلياً بالمظاهرات الشيعية وطرحت مطالب ورفعت شعارات مشابهة. 3. وكانت الهوية السنية غائبة، والشعارات كلها وطنية. وكالعادة لا مشروع.
أثناء الحراك الأخير صرحنا مراراً لأهلنا: أنكم، بلا إقليم، ذاهبون إلى خيار الحرب والتقسيم، وإلا فالخضوع والتسليم. ولم نكن في ذلك سحرة ولا عرافين، إنما هو استشراف قائمٌ على قراءة مقدمات وملاحظة إرهاصات، ومرصنٌ بتجربة.
ما زالت لوثة الوطنية سيدة الميدان
وها هي الحرب قد وقعت بعد عام من الحراك، الذي عجز أصحابه عن تسميته بـ(السني) فراغوا وراء صفة (الشعبي)! رغم أنهم انتهوا بعد أشهر إلى المناداة بـ(السنية) حتى طغت وهيمنت على الشعارات الوطنية، التي أشفت على الاختفاء هي وأصحابها الذين طووا خيامهم وغادروا خائبين. وهناك فرق شاسع بين الاسم والصفة. والهوية تقوم على الاسم وليس على الوصف فقط. وكان المحرك الداخلي الجمعي غزو الأنبار ومهاجمة بيت د. أحمد العلواني بالصورة المعلومة.
لكننا نرى لوثة الوطنية هي سيدة ميدان المعارك، ويمارس إخفاء الهوية الحقيقية واستبعادها بتعمد واضح، وكأننا في الأيام الأولى لـ(الحراك). فهل نحن مقبلون على النتيجة نفسها؟ وستكون تضحيات بلا مقابل سوى التغني بأبطالها وأحداثها.. أي – كالعادة – حماسيات وشعارات خالية من الفكر الناضج والرصد والتشخيص لتوصيف العلاج الناجع؟
نرجو أن يكون الأمر أخف من ذلك؛ لأسباب ربما تطرقنا إليها في مقال لاحق. لكن من المقطوع به أن النتيجة ستكون بائسة ما لم ترفع هوية المعركة الحقيقية، وهي “السنية”، وما لم يكن الإقليم هو أوطأ سقف لحقوقنا التي نبغي انتزاعها؛ فكل سقف أوطأ منه ينبغي أن يواجه بالرفض من قبل الجمهور والمقاتلين على حد سواء، وأن يحدد ذلك منذ البداية.
وإلا فقديماً قيل: “الحياة تجارب؛ فإن لم تتعلم من الضربة الأولى فأنت تستحق الثانية”.
9/1/2014