مقالات

المفاتيح

د. طه حامد الدليمي

في فقرة (الإيمان والتنمية الإيمانية) حددنا أربعة مقاصد نبغيها من وراء تضمين هذا الموضوع في (منهجنا). وكان المقصود الثاني “اعتماد مبدأ (التنمية الذاتية للإيمان). أي كيف ينمي المسلم إيمانه ذاتياً، ويرعاه بنفسه شخصياً، ويزكيه دون الاعتماد – كحاجة أساسية – على حث الآخرين وموعظتهم وتأثيرهم”.

ووضعت لذلك مفاتيح لخصتها بما يلي: “إطلاق طاقة النظر في آيات الأكوان من ناحية، وتدبر آيات القرآن من ناحية ثانية، ورعايتها حتى تصل إلى غايتها من الإيمان وعمل الأركان”.

أنا وفاطمة

قبيل صلاة الجمعة هذا اليوم كنا (أنا وفاطمة) نستمع إلى أحد الشيوخ من خلال شاشة التلفاز، وهو يتحدث عن موضوع الحب في القرآن، في محاضرة يلقيها على مجموعة من الشباب في أحد مساجد إستانبول الواسعة الأرجاء والأبهاء. يبدو أنها حلقة في برنامج للتفسير بعنوان (تدبر). أجاد الرجل في طرح الموضوع، وأفادنا بمعلومات مفيدة. ابتسمت ونظرت إلى زوجتي، قلت لها: كلام قيم، ولكنه لم يضع في أيديهم مفاتيح التدبر، إنما أعطاهم ثماره فقط. لم يعلم الحاضرين الكيفية التي بها يمكنهم من أن يستنبطوا المعاني نفسها التي استنبطها هو، وذلك دون الحاجة إليه على الدوام.

انظري! لم يعلمهم آلية “تخليق الفكرة”. وهذا ما يفتقده المنهج الذي يسير عليه عامة الشيوخ، الجيدين منهم قبل غيرهم.

قالت أم محمد: كيف؟

قلت: هل عرفت كيف استنتج الشيخ هذه المعاني الجميلة المتتابعة كالماء المترقرق في كلمته؟ نظرت إلي ولم تجب. قلت لها: هذا يسمى (التفسير الموضوعي) للقرآن الكريم. ومن طرقه أن نختار كلمة مثل الجهاد، الصلاة، الإنسان… ثم نتتبعها في مواضعها ونجمع الآيات التي وردت فيها، ثم ننظر في معانيها ونتأمل جيداً في سياقها، وعلاقتها بالسورة التي هي فيها، والمحور العام الذي تدور فيه، والمعنى الخاص الذي جاءت في تضاعيفه… وهكذا سيجد القارئ والباحث نفسه أمام سيل من المعاني ذات العلاقة المشتبكة في تشكيلة دونها باقة الورد التي انتظمت بعد أن كانت متفرقة. وبالتحقيق والتدقيق تظهر معاني لطيفة خفية.

هذا ما فعله الشيخ. هذه هي الطريقة التي تخلقت بها أفكاره وتكونت محاضرته. ولو بينها للحاضرين لكان – مع فوائده التي نثرها – أنفع له ولهم آلاف المرات. والحكمة تقول: “بدل أن تمنحني وردة علمني كيف أغرس شجرتها”. هذا هو الذي ينقص مناهج الوعظ والتعليم خصوصاً فوق منابر الخطب وكراسي المحاضرات. وهذا هو الذي ينقص مؤسساتنا كي تمارس دورها الريادي.

مطلوب .. ( مطيع ) بلا ( عين )

وهذه مشكلة كبيرة ومزمنة. من نتائجها وجود كتل من العاملين ولكن بغير الطاقة الذاتية. نعم يعملون ولكنهم بمحرك من خارج أنفسهم.. يعيشون طفيليين لا يمكنهم إنتاج ما يغذون به مفاصل حركتهم الفكرية، والمادية أيضاً. مسيرين لا مخيرين. مستهلكين لا منتجين. ويبدو لي أن الأحزاب والجماعات التقليدية تبحث عن هذا الصنف من الأتباع؛ بمثلهم يمكنهم إدارة عجلة مؤسساتهم دون صداع. وربما يسعون عن عمد إلى صرفهم عن كيفية زراعة الشجرة، ولا يظهرون لهم سوى الوردة العطرة؛ فيحققون مكسبين في وقت واحد: الإعجاب بلون الوردة وعطرها، والتسويق الدائم لها في هذا الوسط الذي سيبقى على الدوام محتاجاً لشرائها من دكاكينهم؛ وبذلك يضمنون تبعيته الدائمة لهم.

هي عملية تشبه عملية الاستعمار الاقتصادي التي تعيث في أقطارنا. الاستيراد هو المسموح به أو – بالحري – هو المطلوب، أما التصنيع فممنوع، وكل سر لـ(تخليق) المنتوج يمكن إخفاؤه يبقونه في ظلمات الكتمان، بل كل سر لأي منتوج ستراتيجي، مثل السلاح النووي، يجب أن يبقى حكراً على الكبار، ومن حاول معرفته من (الصغار) تخلصوا منه بأي وسيلة، ولاحقوا كل من لديه طرف منه بالاغتيال، كما حصل لصدام حسين وعلماء العراق.

وقف رئيس إحدى هذه المؤسسات يؤبن الشيخ المهندس إياد العزي رحمه الله، وهو من أروع من رأيت من المفكرين المبدعين في مسيرة حياتي، فكانت أول كلمة قالها في حقه وقد تهدج صوته وهو ينطقها: لقد كان أخاً (مطيعاً). “كان أخاً مطيعاً”؟ أهذا غاية قدره لديكم! نعم لأنه أسمى صفات التابع عندكم. وضحكت ساخراً وأنا أقول: الحمد لله أن (العين) لم تكن مشددة، وإلا لمدت (الياء) مداً مثقلاً كلمياً، وربما استطال مدها حتى انقلعت من محجرها. هكذا هم يريدون (الأخ)!

كل ذلك من أجل المحافظة على سياق التبعية.

لا أزعم أن كل أولئك الذين يمارسون عملية (التغذية الفكرية بالتقطير) يتعمدون ذلك. ولكن هذا واقع يحتاج منا إلى تفسير أولاً، ووعي ثانياً وهو أهم من الأول، وعلاج يقوم على مطالبة زعماء المسيرة بأن يعلّـموا أتباعهم، إضافة إلى الفكرة، كيفية “تخليق الفكرة” كي نسهم في ولادة جيل قيادي جديد باتت الحاجة ماسة إليه.

المنهج القيادي والمنهج الإداري و … المنهج الارتجالي

معظم المؤسسات التي في الساحة اليوم – إن لم تكن جميعاً – مؤسسات (إدارية) تقتصر وظيفتها على تسيير الأمور وتمشية الأعمال المشبوحة في الجدول. واختفت من بينها – أو كادت – تلك المؤسسات (القيادية) التي تفكر وتطور وتبدع وتتبع مبدأ (التغيير المستمر حفاظاً على الاستمرار الثابت). ما نحتاجه هو (تفجير طاقة التفكير) لصناعة (القائد الأصيل) لا (القائد الوكيل) ولا (الإداري الأكيل)، فضلاً عن (الزعيم العليل) الذي ليس له من القيادة سوى العنوان والمكان والحفاظ على ما كان.

المنهج القيادي هو منهاج كلي، ينظر إلى الجزئيات من خلال الكليات ليربطها بها، ويستخلص من كل حركة أو ظاهرة جزئية قانوناً كلياً يحل به إشكالاتها وينمي به طاقاتها. ومثاله البسيط تلك الطريقة الكلية في (التفسير الموضوعي) التي صاغ بها الشيخ موضوعه عن الحب في الإسلام. لكنه طرحه ناقصاً؛ فالمنهج لا يكتمل ولا يثمر دون تعليم المنهجية الكلية للأتباع. بذلك نتمكن من (التصنيع) المستمر للجيل القائد داخل المؤسسة القائدة. ونحول بين المؤسسة وهيمنة المنهج الإداري عليها، الذي ينظر إلى الكليات من خلال الجزئيات لينفذها طبقاً إليها، أو الانزلاق نحو هوة المنهاج الارتجالي الذي ينظر إلى الجزئيات كخرزات سبحة منفصلة عن نظامها أو سلكها.

حين تتحول المؤسسة القيادية إلى منظومة إدارية

القائد من يرجع كل جزئية إلى قانونها الكلي، كي يشمل به جزئيات أُخرى في الواقع، ويكتشف قوانين جديدة للحياة يضيفها إلى رصيده، ويصحح بها قوانين سابقة جزئياً أو كلياً أثبتت التجربة الميدانية حاجتها إلى التصحيح.

والمدير من نظر إلى القانون الكلي ليُفَعّل الجزئيات طبقاً إليه. ولا قيادة بلا إدارة كما أنه لا إدارة بلا قيادة. فالتلازم بين القيادة والإدارة شرط النجاح. لكن هنا سراً خافياً لا ينتبه إليه بسهولة، وهو أن القيادة ما لم تنجح في إيجاد إدارة تبقى ظاهرة صوتية، مثلها كمثل منشار بلا أسنان. بينما الإدارة يمكنها العمل والإنتاج بدون قيادة تستحق عنوان القيادة. فيكون لها وجود اجتماعي ذو أثر يجتذب إليها كثيراً من الأتباع اقتناعاً أو انتفاعاً، دون أن يشعروا أن هذا الوجود تقليدي جامد يكرر نفسه في وسط بيئة متغيرة. وعندما تتحول المؤسسة القيادية إلى مؤسسة إدارية تخبو الفكرة النابضة فتضيع البوصلة الموجهة وتنحرف الحركة الناهضة عن الهدف المرسوم.

جميع مؤسساتنا التي تريد الخلاص للسنة أو المحسوبة عليهم، باتت مؤسسات إدارية لا نبض فيها ولا روح، ومنها ما ولدت وهي فاقدة للطاقة القيادية من الأصل: سواء منها الفكرية والسياسية والقتالية. نعم تؤدي خدمة للمجتمع، ولكن إما خدمة تقليدية كمثل بائع فاكهة داخل سفينة متدهورة في طريقها إلى الحضيض. وإما خدمة ضررها النهائي أكبر من نفعها. والمطلوب العمل على الإنقاذ من خارج السفينة.

أما حال باقي أهل السنة فعملهم عبارة عن ضرب في فراغ.. لا قيادة ولا إدارة. يعملون بلا قضية، وإن عملوا لقضية فليست هي قضيتهم الأولى (القضية السنية)! هل تريدون مثالاً على ما أقول ربما يثير استغراب البعض منكم أو يقلق سكونه الفكري؟

لا بأس..!

سني عراقي يحتل الشيعة أرضه ويمسخون دينه، وينتهكون عرضه، ويحرمونه حقه في الحياة ويصادرون ماله، ومع كل هذا البلاء يتوهم أن قضيته الأولى تحرير فلسطين!

15/2/2014

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى