مقالات

القائد الأصيل .. والقائد الوكيل (1)

د. طه حامد الدليمي

السيولة الفكرية، المطعمة بالإبداع، والمعرفة المتوهجة بكيفية “تخليق الفكرة”، من أهم مزايا القائد.

لا ينفصل ذلك عن إرادة قوية وثقة بالنفس يغذيها التفاؤل والأمل. هذه الإرادة هي أهم عناصر القوة الدافعة إلى المثابرة والإصرار على مواصلة العمل من أجل ما يؤمن به. مع حالة عشقية تربط بينه وبين القضية.

يخطط وينفذ.. يبني مشروعه على فكرة ينطلق منها، وله رؤية واضحة ذات هدف محدد يحققها. مرن التفكير، متجدد لا يعتريه الجمود، يدرس ويرصد ويعدل في أفكاره وخططه وبرامجه ويطورها باستمرار.

يتمتع بشعور مرهف تجاه قضيته، هو كالروح بالنسبة لحركته الدافقة في سبيلها؛ فالعمل المجرد مَهَمَّة الأجراء والموظفين لا أصحاب الرسالة وورثة المرسلين. ويتصف بإحساس عالٍ بالمسؤولية وهو يؤدي واجبه في تقديم مستحقاتها.. يبذل من وقته وجهده بلا تذمر، ويمنح من ذلك بلا منٍّ ولا أذى (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات:17). كل هذا يتم ضمن منظومة قيادية نسقية الأداء.

هذا هو القائد الأصيل.

وهناك طراز من القادة نسميه “القائد الوكيل”، هو في الحقيقة مدير لا غنى للقائد الأصيل ولا للمؤسسة عنه، نحتاجه كمنفذ للبرنامج، وفي كلٍّ خير. من الممكن تطويره ليرتفع إلى طراز “القائد الأصيل” ومنهم من لا يمكنه ذلك لسبب ذاتي أو خارجي. ولا بأس في ذلك وقد قال الله تعالى: (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) (الزخرف:32) وقال نبيه فيما رواه الإمام مسلم بسنده عن علي : (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)؛ ما دام التوازن بين القيادة والإدارة محفوظاً، وما لم تتحول المؤسسة – بفعل طول الأمد – إلى مجرد إدارة تفتقر إلى روح القيادة وفكرها وفاعليتها.

عقبات في طريق القائد الأصيل

أمام القائد الأصيل ثلاث عقبات مطلوب منه اقتحامها وتجاوزها بنجاح: (رؤية العمل، والعائلة، والوظيفة). وإذا كانت المسؤولية على قدر العنوان فما نقوله هنا يتعلق بـ”القائد الأصيل”، الذي لا تنهض المؤسسات التجديدية إلا بهذا الطراز من القادة الذين هو منهم.

1. رؤية العمل

أما رؤية العمل فالمقصود بها أن ينظر العامل إلى حجم عمله فيجده كبيراً يزيد على ما هو مطلوب منه – كما يتهيأ له – بحيث ينتج عن هذه الرؤية حالات مرضية قد تفسد أصل العمل وتذهب به (كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ) (إبراهيم:18). وهذا مخالف للأصل؛ فمن أذكار المسلم في الصباح والمساء فيما رواه البخاري عن شداد بن أوس ما سماه النبي (سيد الاستغفار) وفيه (أَبوءُ لَكَ بِنِعْمتِكَ علَيّ، وأَبُوءُ بذَنْبي). ومعنى « أَبُوءُ » – كما في لسان العرب – أُقِرُّ وأحتملُ وأَرجع. ومن معانيه العدل والتكافؤ والمساواة. فهو اعتراف بأنه ليس من العبد إلا الفقر والذنب، وليس إلا نعمة الله تعالى عليه تحيط به من كل جانب؛ فما عمل من عمل فهو بتيسير الله فضلاً منه ونعمة، وإن قصّر فمن نفسه يقر بذنبه راجعاً به إلى ربه محتملاً إياه يسأله أن يعفو عنه فضلاً، ويطلب منه أن لا يعاقبه عدلاً. وكأن حقيقة العلاقة فيها كفتان: كفة ليس فيها إلا الفضل، وكفة ليس فيها إلا الذنب!

فكيف يرى عبد عمله وهو يستحضر هذه المعادلة؟

وليس معنى هذا إعدام الرؤية من الأصل، وإنما ضرورة انتفاء ما يصاحبها من حالات مرضية أخطرها:

أولاً: المنُّ بالعمل في نفسه أو على أعضاء منظومته. فإن المن بالعمل دليل رؤيته واستكثاره. وهذا من أول ما نهى الله تعالى عنه نبيه لحظة أن كلفه بتبليغ رسالته فقال: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ * فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) (المدثر:1-10).

فقد جمعت هذه التوجيهات مؤهلات الداعي (وهو القائد) النفسية، التي من دونها لا يمكنه تحمل مسؤولية النذارة أو أداء مهام الرسالة:

1. تعظيم الله سبحانه وتكبيره فيتصاغر لدى المؤمن كل كبير عملاً كان أم غيره.

2. طهارة الثوب والاهتمام بالمظهر الذي يجذب المدعوين، ولا يكون عاملاً مضافاً من عوامل تنفيرهم، وهذا يستلزم طهارة الباطن من باب أولى؛ فذلك موضع نظر الخلق، وهذا موضع نظر الرب.

3. هجر الذنوب المعبر عنها بالرجز، وهو لغة في الرجس، أو هو العذاب النازل بسبب الذنوب؛ فعبر بالمسبَّب وأراد السبب. وذلك طهارة الباطن.

4. عدم المنّ بالعمل استكثاراً له؛ فمن استكثر فقد منّ. وكيف يستكثر من يُكبّر!

5. الصبر لله.

6. ثم النظر في المآل وهو يوم القيامة.

ثانياً: الضيق بالنصيحة، والانزعاج من النقد. وهذا مؤشر خطير على وجود بذور الشرك الخفي؛ فعلى صاحبه الإسراع بنبشها قبل هبشها.

ثالثاً: التطاول الخفي أو العلني على أقرانه.

رابعاً: التذمر من إرهاق العمل لا بطريقة العرض الهادف والنقاش الهادئ، وطلب الإعفاء من بعض الأعمال الزائدة، وإنما بطريقة الشكوى وتحميل أقرانه أو مسؤوله تبعية انشغاله وإجهاده، وربما ذكر تقصيره في حق نفسه وأهله نتيجة استغراقه. لا سيما إن كان ما يعمله يعمله باختياره، ولم يلزمه أحد بأدائه.

خامساً: تفسير تفوق غيره في العطاء دون ظهور بادرة تذمر منه بتمتعه بأسباب خارجية، لا إلى مزايا ذاتية تعينه على ذلك. وهذا مخالف لقوله تعالى: (هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) (آل عمران:165) وما في بابه من الآيات. يعود سبب هذا التفسير إلى جذور نفسية قد يكون أساسها صحيحاً وهو الثقة بالنفس والاعتداد بها والتبرم بتفوق الغير عليها ما دام دافعاً لصاحبه إلى التنافس المحمود. لكن حين يتضخم هذا الأساس في غفلة من صاحبه يتحول إلى طغيان خفي، وإهمال لردم الفجوات ومعالجة للعلل الداخلية.

هناك حالة يوجه فيها النقد إلى رأس المؤسسة بطريقة غير مقبولة، منها ما يكون مستنده دعوى تمتعه بمزايا خارجية كالنفوذ أو العلاقات أو المال، يرجع إليها سر تفوقه الذي ينبغي أن يكون من مميزات رأس المجموع؛ وهذه – كما يبدو – عبارة عن دفاع سلبي مبطن عن الذات ناشئ عن رغبة خفية في التقليل من شأن الجميع لا لذات التقليل نفسه – ربما – وإنما رغبة في التوصل إلى الدفاع عن تقصير الذات وإرضائها بنوع من الشعور بالتفوق، وإظهار ذلك للآخرين. وكأن عقله الباطن يهجس له قائلاً: لولا تلك التسهيلات والأسباب الخارجية ما زاد عليك رئيسك، ولو جُرد مما حرمت منه لكان دونك. فكيف بمن دونه في المرتبة!

في خريف/2008 كنت أدرس حالة شخص هو من أقل العاملين معي إنتاجاً، وأبطأُهم عملاً، وأكثرهم كلفة، وأشدهم تذمراً وشكوى تسببت في مشاكل جمة أثرت على آخرين معه. فتوصلت بعد التفكر والنقاش إلى أننا أمام حالة تقصير وصلت إلى درجة القعود من شخص يبدو أنها أقلقته وأزعجته، لكنه يصعب عليه أن يواجه نفسه بما هي عليه من حالة لا يرضاها، ثم هو – لسبب ما – لا يريد التخلص مما هو فيه بالطريقة السليمة. هنا يأتي دور الحيل النفسية للعقل الباطن من أجل التخلص من الضغط الداخلي الذي سببته له هذه الحالة؛ فلم يجد خيراً من (إسقاط) ما هو فيه على غيره على العاملين معه وسيلة يتخفف بها من القلق والإنزعاج. ثم لا أفضل من أن يكون رأس المؤسسة هو أول من يتوجه إليه بهذا (الإسقاط)؛ لأن هذا يجلب له غاية الراحة، ويمنحه العذر الكافي لتبرير تقصيره وقعوده؛ فإذا كان القدوة هو العلة الأساسية لما يعاني منه ويلام عليه؛ فلا يمكن لنفسه – بعد ذلك – أن تؤنبه، ولا لأحد أن يلومه على تقصيره؛ لأن ما هو فيه سيبدو تحصيل حاصل، ومن باب أولى.

وتأملت في العلاج فوجدت وصفته في أمرين:

1. إرشاد العامل وتشجيعه على طرح معاناته أو اعتراضه بالصورة المقبولة بعيداً عن التشنج.

2. تحديد المهام تجنباً للإرهاق؛ فقد يكون الشاكي على حق، ولا عجب ولا بأس ما كانت شكواه لماماً وأسلوبه تماماً. فمن زاد طوعاً لا كرهاً في عمله، فلا يُحملنَّ أصحابه مسؤولية عبء هو اختاره لله بنفسه، وليكن هِجِّيراه: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) دون ضيق، أو يتخفف منه بالطلب الرفيق. وليستحضر خصال القائد الرسالي في أول سورة (المدثر). وإنما يكلف المرء على قدر عنوانه.

ودون ذلك ربما وصل المرء إلى أخطر الحالات وهي:

سادساً: الانقطاع عن العمل بالكلية. وربما زاد فهجر سربه هجراً غير جميل، وسلق صحبه بلسان طويل صقيل. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

22/2/2014

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى