تحرير الموصل من الاحتلال الشيعي (2)
د. طه حامد الدليمي
هل هو مؤامرة ؟
كثر الكلام، وعصفت الحيرة بالكثيرين، واشتد التساؤل عن تحرير الموصل بهذه السرعة: هل ما جرى حقيقة تمت في سياقها الطبيعي؛ فليس في الأمر مكيدة أو لعبة متفق عليها؟ أم هي مؤامرة مدبرة لمقاصد مسبقة؟ وبعضهم يؤكد جازماً ويقول بلا مواربة: إنها مؤامرة واتفاق بين المالكي و”الدولة الإسلامية في العراق والشام” التي تسمى (داعش) من أجل تبرير ضرب المناطق السنية وتخريبها وإبادة أهلها وتهجيرهم وتمكين الشيعة منها. وإن إيران تريد من ورائها تحويل المنطقة السنية إلى ساحة خراب لتزيل العقبة الكأداء أمام (الهلال الشيعي)، وتأليب المجتمع الدولي ضدها باعتبارها منطقة منتجة ومصدرة (للإرهاب). ومنهم من يذكر أن القصد هو إعلان حالة الطوارئ لينعم المالكي بأطول مدة في منصبه. وقد وصلتني رسائل عديدة تطلب مني الجواب الشافي عن هذه التساؤلات المحيرة المقلقة. فأقول مستعيناً بالله مستهدياً به جل في علاه:
مهما كانت المؤامرة المفترضة: داخلية أم خارجية، إيرانية أم أمريكية أم غير ذلك، فالتنفيذ في نهاية المطاف يمر عبر قائد القوات المسلحة رئيس الوزراء نوري المالكي. وفي حال موافقته لا بد أنه ينفذه بصورة مقبولة بالنسبة إليه، ليس فيها خطورة عليه. وإلا كان متآمراً على نفسه، ساعياً في إزالة ملكه. وهذا ما لا يفعله أحد، بل ولا يتعامل الأقوياء مع العملاء الضعفاء بهذه الطريقة.
لهذا فأنا لا ألمح في الأمر مؤامرة أو اتفاقاً مسبقاً، وأستبعد ذلك جداً؛ لأن ما حدث يتناقض كلياً مع ما قلته آنفاً. وأزيد الأمر وضوحاً وتفصيلاً فأذكر الأسباب التالية:
- لو كان ثمت اتفاق لكان التخطيط لدخول القوات المحررة للموصل أن يكون مؤقتاً. وهذا يستلزم أن تبقى القوات الحكومية على أطراف المدينة. ثم تفتعل معركة تنتهي بعودة تلك القوات إلى مواقعها لتبدأ المجازر وعمليات الملاحقة والإبادة والتهجير. أما وإن الهزيمة بهذه النهاية الموجعة، والتداعيات المتسارعة وبهذه القسوة من الذلة والمهانة والخسارة، وهذه الصورة المخزية والفضيحة المفظعة، التي جللت بالعار نوري وشيعته ومن معه إلى ألف سنة قادمة، فمن غير المعقول أن يتم كل هذا باتفاق.
- إن هزيمة نوري وجيشه باتت تهدد عرشه خاصة وحكم الشيعة عامة بالزوال؛ فمقاتلو السنة أصبحوا على مشارف بغداد، وتفكك الصف الشيعي مستمر، والانهيار في تلاحق، وقد لا يطول الأمر حتى يسقط النظام برمته! أفيتآمر المرء على نفسه وقومه وعرشه!
- لو كان الأمر مدبراً سراً بين الطرفين لكان الانسحاب منظماً، تهيأ له الطرق والوسائل، وتكون الهزيمة صورية. لكن الذي حصل شيء آخر تماماً. إنه هزيمة منكرة راح ضحيتها من القتلى فقط أكثر من 2500 جندي، وانهار الباقون وهربوا ولم يبق منهم أحد قط. ومن غير الممكن أن يتم لملمة فلولهم وإعادة تعبئتها وإرجاعها إلى المحافظة أو غيرها من المدن بسهولة أو في فترة زمنية قريبة. وقد لا تعود، وهذا هو الراجح فهل هذا يكون باتفاق؟!
- لو كان اجتياح المدينة صورياً، لاستعد له نوري فأخلى جميع الأسلحة والأعتدة، ولم يُبقِ إلا كميات قليلة ونوعيات بسيطة. أما والسلاح المتروك شيء لا يخطر ببال كماً ونوعاً فهذا ما لا يتوافق مع فرضية المؤامرة.
- إن ضرب مناطق السنة وإبادة أهلها قائمة على قدم وساق، وبتواطؤ إقليمي وعالمي، وصمت إعلامي مريب. وهي في غير ما حاجة إلى مبرر ولا تشريع. فعلام كل هذا العنت وهذه الخسائر والفضائح والفظائع من أجل تحصيل شيء حاصل؟!
- علامات الرعب والاضطراب التي تجتاح المالكي وأعوانه، يراها على ملامح وجهه واضطراب حركاته ونبرة صوته وتفاهة قراراته كل من ينظر إليه ويسمع كلامه.
القوة المحررة
أما ما يتعلق بالقوة المحررة وهي “الدولة الإسلامية”، والتي تسيطر الآن على الموصل بلا منازع، فالأخبار الأكيدة عنها أن قادتها مشغولون بتنظيم شؤون المحافظة بنواحيها الأمنية والاقتصادية والخدمية والبلدية، وإرجاع المهجرين إلى بيوتهم، وتأمين عودة الموظفين إلى دوائرهم، وتوفير ما أمكن من الوقود. وقد حافظوا على مؤسسات الدولة وحموها من أيدي العابثين، وحرسوا المصارف، ويتجهزون لتوزيع الوجبة الأولى من الرواتب. وتعاملوا مع قوات البيشمرگة الكردية بانضباط عالٍ، وتجنبوا كل ما من شأنه أن يثير التوتر والمشاكل، بل أعلنوا لهم أنهم وإياهم سنة وإخوة في الدين. ولم ترتكب خروقات اجتماعية قط، ولم تحصل مجزرة أو انتقام. وتعاملوا حتى مع الشرطة برحمة: مجرد استتابة وإخلاء سبيل!
هذا كله يدل على أن هؤلاء جاءوا وفي بالهم الرغبة في البقاء، وفي نيتهم العزم على إقامة حكم يتسم بالدوام، لا مجرد دخول وخروج صوري. بعبارة ثانية: من كان يعمل للبقاء لا يمكن أن يأتي بمؤامرة أساسها المرور المؤقت بالمكان.
هذا ما نراه والله تعالى أعلم (وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ) (يوسف:81).