مقالات

من يتحمل مسؤولية تقسيم العراق

د. طه حامد الدليمي

عندما أسمع – مثلاً – أن مليشيات شيعية تسندها أفراد من مليشيا (حزب الله) اللبنانية تقاتل السنة في الصقلاوية بالفلوجة، لا يمكن أن يمر هذا الخبر دون أن يرسم لدي علامات استفهام عديدة وكبيرة أولها: كيف وصلت هذه الشراذم إلى عقر ديارنا لولا الفكر الوطني السطحي بشقيه العلماني والإسلامي؟ وأقول “سطحي” لأن هذا الفكر ينظر إلى ظاهر الأشياء دون الغوص – ولو قليلاً – في عمقها. يروي المحامي خليل الدليمي أنه في أحد لقاءاته بالرئيس صدام حسين رحمه الله في تموز 2006 وصل خبر مُفاده تمكن (حزب الله) من تفجير دبابة إسرائيلية فأهوى صدام إلى الأرض ساجداً شكراً لله! ولك أن تعرف مدى هذه السطحية من وصف أصحاب هذا الفكر لهؤلاء بـ(العروبية والوطنية) منذ عام 1921إلى يومنا هذا؛ فما زال البعض – رغم كل الزعازع والكوارث – مقيماً على ما كان عليه من ضلال قديم ونظر غشيم مفاخراً بحفاظه على الثوابت!

وعندما أنظر إلى ما أصاب السنة من ضياع وتشتت في الأرواح والأموال والأُسَر والديار. يقتلون بالجملة، ويهجرون بالجملة، وقد سدت في وجوههم طرق البر والبحر والجو. تركوا أراضيهم التي تزيد مساحتها على نصف مساحة العراق وهرعوا إلى إقليم كردستان لا لشيء سوى البحث عن الشعور بالأمان؛ فظروفهم المعيشية هناك بائسة جداً، وما زالت شهية المنظمات الإغاثية المحلية والعربية والعالمية غير مفتوحة نحوهم. ومن طريف ما يذكر هنا أنني قصدت إحدى تلك المنظمات في (دولة جارة) قبل حوالي سنة سعياً في إغاثة المهجرين والمنكوبين. ووعدوني المساعدة، على أن يبدأ التنسيق خلال أسبوعين. وما زالت المراسلات والمهاتفات على تقطعها موصولة، وكان آخر اتصال مع مسؤول المنظمة يوم 30/6/2014 قلت له: أنا أعلم أن لديكم ضوءاً أخضر من الحكومة لإغاثة العراقيين ونحن لدينا كل الإمكانيات لتسهيل مهمتكم. فقال الرجل: “أبشر” ولكن أمهلني حتى أتدبر الأمر. وها قد مر أربعون يوماً تماماً على السنة الفائتة وما زال “أطال الله عمره” يتدبر الأمر!

جودُ الرجالِ من الأيدي وجودهمُ                 من اللسانِ فلا كانوا ولا الجودُ
عندما أرى هذا الذي يجري أقول: لماذا؟ ما الذي حل بنا؟ من أين أُتينا؟ أهذا استحقاقكم يا سنة العراق؟ لماذا أنتم – على العكس من الآخرين – تبذلون أغلى الجهود فلا تجنون إلا الذي هو أدنى من المحصود؟ متى تدركون أن قنطاراً من العمل لا يعني شيئاً حتى تنفخ فيه الروح بقيراط من الفكر؟ وأنكم – دون بقية شركائكم وجيرانكم – تحملون ثقل الكبار ولا تفوزون حتى بنصيب الصغار؟!

سطحية الفكر الوطني في العراق والدول المختلطة

امتاز الفكر الوطني – إضافة إلى سطحيته وأمور أخرى عديدة – بميزات ثلاث:

– الخطاب الحماسي

– نسبة كل ما يجري إلى وجود مؤامرة مدبرة

– فقدان المشروع

اشتهر الوطنيون بتوجيه الخطابات الرنانة وإطلاق الشعارات الملتهبة والحديث عن الأهداف التي تخلب اللب وتستحوذ على النظر. هذا مع المبادرة إلى نسبة كل حدث إلى مؤامرة كبيرة تبيت في السر. إنه أقرب مخرج للعقول الكسولة من أن تتعب وتدأب وتجمع وتحلل وتركب ثم تستنتج. وحيلة نفسية للهروب من شيئين: الجهد الفكري، ومواجهة الذات بالحقيقة؛ فعادة ما تكون أسباب الحدث داخلية قبل أن تكون خارجية. وهو ما أثبته القرآن الكريم وجعله أصلاً من أصول التغيير على مستوى الفرد والمجتمع فقال سبحانه: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) (آل عمران:165).

لكن الوطنيين لا يقرأون، وإن قرأوا بلا تدبر. إنهم كبني إسرائيل في (قصة البقرة) لا يجيدون سوى الشكوى والبحث عن معوقات العمل تجاه الهدف. ولا يستفيدون من تجربة لانشدادهم إلى فكر مؤدلج مقدس. ولا ينتفعون بتاريخ، ولا ينقلون النظر بين تجارب  الشعوب. وإلا لاستفادوا – مثلاً – مما حل بيوغسلافيا قبل عشرين سنة من كوارث فجنبوا بلدهم كارثة مماثلة في نوعها لكنها أكبر في حجمها. هل لهم أن يستخلصوا من تجربة يوغسلافيا أن وحدة الأوطان بوحدة الإنسان لا وحدة الأطيان. وأنه مهما كابر الفكر الوطني في دعاواه عن (وحدة الشعب) فإن الخلاف الثقافي بين الشعوب لا بد أن يعبر عن نفسه يوماً، ولكن بعد دفع فاتورة التأخير.

وعندما يخلو الخطاب من المشروع يتحول إلى شعار فارغ للمزايدة. وإذا كان الخطاب الخالي من المشروع هو كل ما لدى الذين ينددون بالمؤامرة فالبشرى حاصلة بوصول المؤامرة إلى نهايتها. فكون العدو يتآمر ليس سراً ولا شيئاً طارئاً بل هو الشيء الطبيعي في حركة السياسة بين البشر منذ أن وجدت التجمعات الإنسانية وتكونت الدول.

 

الوطنيون ومسؤولية التقسيم

ما زال الوطنيون يرددون: إن الأعداء يريدون تقسيم العراق. وإن العمل جار اليوم على “تقسيم المقسم وتجزيء المجزأ”. والسؤال الذي يطرح نفسه مباشرة بعد هذا التنظير: فما أعددتم لمواجهة هذه المؤامرة؟ ما مشروعكم لمنع التقسيم؟ وإلا فمن علم بالخطر وتقاعس عن مواجهته فهو شريك في المسؤولية على قدر تقاعسه.

خاضت المقاومة العراقية أشرس حرب ضد المحتل حتى أجلته، لكنها عجزت عن الاحتفاظ بشبر من الأرض التي حررتها. لماذا؟ لأنها قاتلت بلا هوية منتجة ولا هدف واقعي حكيم. ولم نجد عند أحد منهم جواباً جاداً واعياً لمستقبل العلاقة مع الشيعة. و

قبل بضع سنين دعونا للجوء إلى مشروع إسعافي لإنقاذ السنة مع الحفاظ على وحدة البلد هو (الإقليم). فاعترض الوطنيون بأن الإقليم تقسيم. فطالبناهم بالبديل فلم نجد عندهم شيئاً.

وعند انطلاق (الحَراك) الجماهيري في المحافظات السنية قلنا: بلا هوية سنية وإقليم سني فإن الحراك آيل إلى أحد نهايتين: التمزق والتسليم، أو الحرب والتقسيم. وارتجت المنصات بالخطابات الحماسية التي تنادي بوحدة العراق وأخوة السنة والشيعة والتنديد بالمؤامرة وتهديد الأعداء بالبلاء والفناء!

وها قد وقعت الحرب! فنبشر الوطنيين أن أسهم التقسيم أمست راجحة على الإقليم. ونحمد الله تعالى أن الأوضاع آلت إلى هذه النقطة قبل نشوء الإقليم، وإلا لانطلقت ألسنة الوطنيين تلقي باللائمة عليه وعلى دعاته وتطرح ألف دليل وشاهد وقرينة على تآمرهم وعمالتهم.

في عهدكم أيها (الوطنيون) وزمان (عراقكم الموحد)، ها هو العراق ذاهب باتجاه التقسيم. ونسألكم سؤالاً واحداً: من المسؤول عن هذا المصير؟ ولكن مرتين:

مرة الآن.. و…………….. مرة عندما يكون الجواب ما ترون لا ما تسمعون!

الأحد

10/8/2014

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى