مقالات

الأقلمة أو الفيدرالية .. نظام حضاري لا مطلب آني

د. طه حامد الدليمي

الفكر الاندماجي

من جوانب النقص الخطيرة في الفكر القومي والإسلامي اعتمادهم (الاندماج) صورة وحيدة للوحدة والجماعة. وإهمالهم صوراً أُخرى لذلك أساسية وواقعية مثل (التنسيق، التعاون التحالف، الجبهة، الاتحاد، الفدرالية، الكونفدرالية). وإن جنحوا إلى شيء من ذلك فمضطرين لا مختارين.

إن هذا الفكر هو السبب وراء فشل أول وآخر تجربة عربية للوحدة، وكانت بين مصر وسوريا. وعدم قيام وحدة عربية مجدية. وابتعاد دول عربية كبيرة المساحة مثل السودان ومصر، أو دول متعددة الثقافات والأعراق مثل العراق عن (الفدرالية أو الأقلمة) كنظام سياسي متطور يطرح معادلة فاعلة للحل في مثل هذا الواقع المتناقض الذي يموج بالأزمات الخانقة المستعصية. ووسط هذه الثقافة القديمة تبدو دولة (الإمارات) حالة استثنائية شاذة عن المجموع.

قلة أولئك الذين انتبهوا إلى كون دولة الخلافة الإسلامية دولة ذات تكوين إقليمي تلقائي ناشئ من طبيعتها التي تشكلت بفعل دين رباني متطور. وأدركوا سر مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم للنظام القبلي ولم يشغل نفسه لإزالته، ومن مظاهره إقرار رئاسة القبائل على ما كانت عليه، وكون كثير من المعارك الفاصلة – مثل القادسية – خاضها المسلمون طبقاً للنظام القبلي.

إن (الفكر الاندماجي) هو وراء أزمات كثيرة ليس أولها ولا آخرها العلاقة المتأزمة بين الأحزاب العربية: دينيها وعلمانيها، بعضها مع بعض. وكذلك بين فصائل المقاومة بعضها مع بعض، واعتمادها على (البيعة) أساساً للولاء والانتماء، وكان يكفيها (العهد) تجنباً للتداعيات الفكرية والدينية التي أضرت بها. وقد يسمي بعضهم رئيس الحزب والفصيل (إماماً)، وأدى ذلك ببعضها إلى شرعنة قتال الفصيل الآخر. ومصطلح (البيعة والإمام) يشير بوضوح إلى الفكر الاندماجي، الذي لا ينتهي دون صهر بقية الأحزاب والفصائل كلها تحت راية واحدة هي راية المكون أو الفصيل المعين.

وآخر ما تسبب به هذا (الفكر الاندماجي) من ويلات رفض سنة العراق إقامة إقليم لهم يحفظ وجودهم الرخو من تسلط الشيعة عليهم. توهماً منهم بأن (الأقلمة) تعني التقسيم، وخروج الإقليم عن نسيج الوحدة الاجتماعية وإطار الوحدة السياسية. فدفعنا لهذا الفكر ثمناً باهضاً لا يعلم مدى عمقه وسعته إلا الله سبحانه، وإن كانت نتائجه ماثلة للعيان فاعلة في الأعيان.

 

هل قيام دولة قومية أو إسلامية يعني الاستغناء عن الإقليم

بعد قيام (الدولة الإسلامية) في الموصل وما جاورها تصور كثير من الناس أن موضوع (الأقلمة) قد تجاوزه الزمن. وهو تصور خاطئ يعبر عن جملة أوهام، منها:

– وجود صورة واحدة للتوحد والجماعة هي الاندماج.

– تصور أن نظام الإقاليم يعني التقسيم.

– تصور أننا عندما دعونا للأقاليم إنما ذلك لسبب طارئ فقط.

إن منطلق دعوتنا لتبني الأقاليم ناشئ عن فهمنا لهذا النظام.

إنه نظام سياسي يمثل أفضل معادلة ممكنة لحل الخلاف الثقافي والاقتصادي. بما في ذلك الخلافات الدينية والعرقية، والتباين الاجتماعي. فحين تكون الدولة ذات مكونات تختلف في لغتها وهويتها الثقافية، فإن ذلك يؤدي تلقائياً إلى حدوث توترات مختلفة يمكن أن تقود إلى التجزئة والتقسيم بين هذه المكونات ما لم تحكم بالقوة. والشعوب التي تقاد بالقوة يشيع فيه الظلم ويكثر فيها الاضطراب، ومصيرها التفتت والانقسام.

ثم إن التباينات الاجتماعية والاقتصادية في حاجة إلى نفس طويل يتبع أسلوب العلاج المتدرج، ولا يمكن علاجها أو تجاوزها بطريقة التجاهل أو الطفرة أو القفز على الواقع. فمثلا لو أردنا أن نوحد بين السعودية واليمن والشام ومصر والعراق، فإن التباين الاقتصادي والاجتماعي واختلاف العادات والتقاليد سيقف حائلاً حقيقياً أمام الوحدة الاندماجية، وستفشل أية محاولة من هذا النوع، وتكون لها تداعياتها الخطيرة. إن قراراً مثل هذا لا يقام على العواطف والأحلام، ولا يصح إيكاله إلى النوايا الطيبة فقط، ولا يمكن أن يتم بلمسة قلم، أو يتفرد به قرار سياسي، ما لم يسبق ذلك تمهيد ومرور فترات انتقالية طويلة، ثم يترك الامر بعد ذلك للشعوب تقرر مصيرها بمحض إرادتها. وقد لا تختار الاندماج في نهاية المطاف أو تختار؛ فذلك لا يهم، وليس في ذلك ضير من الناحية السياسية ولا الشرعية؛ ما دامت القرارات المصيرية المعبرة عن الجماعة ووحدة الدين متوفرة، في ظل التحاكم إلى شريعة الله. والاسلام يعطي حرية واسعة في أمور السياسة، ولا يحصر الأمر في نظام واحد أو شكل واحد. فالأخذ بنظام (الأقلمة) يجنبنا تلك التداعيات الخطيرة للحلول المتعجلة غير المدروسة. وهو أقرب إلى النظام السياسي التي اتبعته الإمبراطورية الإسلامية في عامة عهودها.

 

لا محيص عن نظام الأقاليم

عندما يفهم المعارضون أن نظام الأقاليم لا علاقة له بالتقسيم سيدركون أن ذلك لا يتناقض مع المشروع القومي ولا المشروع الإسلامي، بل يخدمهما أعظم خدمة. وسيحيص العرب ويحيصون ولا يجدون حلاً لأزماتهم إلا بالأقاليم، ودون ذلك مزيد من الأزمات التي ستنتهي بالتجزئة والتشرذم والتقسيم.

إن أقلمة الدولة تجعل كل مكون مشاركاً للمكون الآخر في الخير، ومسؤولاً عما يحصل لذاته من شر. فتتفاهم مكوناتها المختلفة وتتعايش وتتقارب فيما بينها. فتستقر الدولة وتنمو وتتطور. وهذا أرقى وضع سياسي يمكن أن تصل إليه دولة. هذا مع وحدة الكيان السياسي وقوته. وهكذا لن يقف نظام الأقاليم عائقاً أمام تكوين أي نظام سياسي: وطنياً كان أم قومياً أم إسلامياً. وبالنسبة للمشكلة الشيعية فإن هذا يوفر أفضل الأجواء لعلاجها، خصوصاً في ظل نظام إسلامي رشيد. فمن ناحية يمكننا من عزل الشيعة في منطقة خاصة بهم، لا يختلطون بالسنة، ولا يمارسون بث سمومهم بين صفوفهم، ولا يمنحون فرصة للتآمر عليهم بالاختلاط بهم. وفي الوقت نفسه يمنحنا الفرصة والوقت الكفيل بوضع استراتيجية تغييرية بسقوف زمنية مناسبة. ثم لكل حادث حديث.

وبهذا يتبين أن نظام الأقاليم نظام حضاري، وخيار استراتيجي، وحل متطور يناسب الجميع. وليس هو مطلب آني للخروج من أزمة، ينتهي مفعولها بانتهائها.

نقول هذا مع علمنا أن الزمن ربما يكون قد فات، وتجاوز الإقليم إلى التقسيم.

16/8/2014

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى