مقالات

ثقافتنا تاريخية عاطفية .. لا شرعية منطقية

مقتل سعيد بن جبير مثالاً

د. طه حامد الدليمي

ليس حباً بالحسين ولا حرصاً على سعيد ولا تعظيماً لابن عبد العزيز ركز الشعوبيون على هذه الشخصيات في تاريخنا. ولا حتى كرهاً ليزيد ومعاوية وإنما تشويهاً للصحابة لأنهم نقلة الدين توصلاً إلى الطعن في الدين نفسه؛ فيزيد قنطرة إلى معاوية، ومعاوية قنطرة إلى الصحابة، والصحابة قنطرة إلى الإسلام ونبيه ، كما أن زوجات النبي قنطرة إليه فأساء إليهن المنافقون.

هذه هي القصة باختصار.

أما عمر بن عبد العزيز رحمه الله فركزوا عليه، ولم يكتفوا بما له من المناقب، وهي كثيرة، بل اختلقوا له ما لم يكن، وبعضها ما لا يعقل ليوحوا إلى الناس أنه ليس في الأمويين صالح سواه.

وسعيد بن جبير غفر الله له، فقد اختلق له الشعوبيون بين السنة مقتلاً كمقتل الحسين بين الشيعة، وإن بصورة مخففة مداراة لعقلية السنة التي لم يبلغ بها الهبوط ما بلغ بعقلية الشيعة التي انهارت فيها كل الحدود والحواجز التي تحفظ للعقل احترامه ووظيفته. فكان (مقتل سعيد) هو (المقتل السني) للحسين!

خنجر العاطفة في قلب الشرع ولب العقل

لجأ الشعوبيون إلى حيلة ذهنية لترسيخ ضعف تأثير العقل حد الغياب، وهي إثارة العاطفة حد الالتهاب؛ فالتهاب العاطفة لا يكون إلا مصحوباً بغياب العقل. لهذا خلط الشعوبيون – وعلى رأسهم الشيعة – روايتهم للتاريخ بالمؤثرات العاطفية بشكل مكثف حتى لكأنك في مشهد مسرحي كتب مادته عباقرة المسرح العالمي! أو قصيدة رثاء بنواح الخنساء! بل حول الشيعة التاريخ إلى قصائد بكائية ممثلة مغناة.

وفي حضور العاطفة وغياب العقل الإنساني؛ كان حضور التاريخ وغياب الشرع الرباني. وتاريخنا كتب بيد سنية لكن مروياً بشفة شيعية. فاجتمعت المؤثرات الأربعة (العاطفة مع غياب العقل، والتاريخ مع غياب الشرع) على ثقافتنا فكانت ثقافة تاريخية شيعية لا ثقافة شرعية سنية. وسقط في فخ هذه الثقافة الشعوبية جمهور كبير من العلماء والدعاة والخطباء والإعلاميين والكتاب، فهم وإن كانوا سنة في انتمائهم، لكنهم شعوبيون في ثقافتهم.

وإذ كان حفظ العقل إحدى الضروريات الخمس في الإسلام، فقد كان الاعتناء به من أول ما نزل إلى الأرض من السماء، فجاء التوجيه الرباني في مكة: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (الإسراء:36). وفي تجربة عملية حصلت في المدينة أنزل الله سبحانه قوله الشريف: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6). وحين ينتفي التبين والتثبت يكون المرء قد عطل عقله ونكب عن شرعه، فقفا ما ليس له به علم. لهذا أصل علماء الملة قاعدة نصها: (إذا كنت ناقلاً فالصحة، وإن كنت مدعياً فالدليل).

مقتل سعيد بن جبير .. هذه المسرحية الشعوبية العجيبة

إحدى أشهر مسرحيات التاريخ الشعوبي التي تشكلت عليها الثقافة الإسلامية السائدة، مسرحية (مقتل سعيد بن جبير). فهل كانت العاطفة والتاريخ الشعوبي؟ أم قاعدة (فتبينوا)، و(المسؤولية العقلية) القائمة على الأركان الثلاثة (السمع والبصر والفؤاد)، هي الحاكم الحاضر أمام هذا النص المسرحي المحبوك المسبوك؟ هذا النص الذي ما ترك كتاباً في التاريخ أو المواعظ أو الأدب أو الطرائف إلا ودخله.

ثم دخل عالم المسرح فألف الدكتور يوسف القرضاوي سنة 1949 مسرحية (عالم وطاغية) من ثلاثة فصول، طالما مثلت على خشب المسارح الإسلامية وفي المساجد. وحين تعرض المسرحية للتحليل النفسي تجد وراء ذلك سبباً نفسياً عاطفياً؛ فالاضطهاد والتعذيب الذي طال الإخوان يجعلهم يبحثون عن شخصية تاريخية يتماهون بها؛ فكأن سعيد بن جبير هو الإخواني المضطهد، وكأن الحجاج بن يوسف هو جمال عبد الناصر. وليس هذا مجرد تحليل بل هو ما صرح بقريب منه د. القرضاوي فقال في تقديمه لها: (فى معتقل “هاكستيب” فى الصحراء كنت أقرأ فى كتب الأدب والتاريخ، فكان مما راقنى وأثر فى نفسي موقف سعيد بن جبير العالم الفقيه الشجاع من الطاغية المتجبر الحجاج بن يوسف. لهذا رأيت قصة سعيد مع الحجاج صالحة لأن تكون مسرحية ذات هدف ورسالة. وخاصة أننا كنا نصارع طغيان الحجاج، فما أحوجنا الى مواقف كموقف سعيد! وكتبت المسرحية، ومثلت فى معتقل الطور. واليوم يعيد التاريخ نفسه، وتتكرر المأساة، ويتجدد الطغيان والاضطهاد لحملة الدعوة الاسلامية، ولكن بصورة أعنف وأقسى، وأشد ضراوة ووحشية. وتبرز مواقف كمواقف سعيد فى مواجهة طغيان أخبث وأعتى وأشد كفراً من طغيان الحجاج. ومن هنا وجدت الدافع الذى دفعنى الى كتابتها بالأمس، لا يزال قائماً اليوم. بل هو أقوى. وبدأت أكتبها من جديد، مستلهما تاريخ تلك الحقبة الغنية بالبطولات والمواقف الرائعة الى جوار ما حفلت به من مظالم، وما طفحت به من تجبر وطغيان، ومستهدياً بشخصية سعيد بن جبير، وما عرف به من علم وايمان وشجاعة وثبات، سجلتها لنا كتب الأدب والتاريخ والرجال).

لهذا تفاعل الإخوان المسلمون وأمثالهم، ممن اضطهدوا حقاً، أو يعانون من عقدة الاضطهاد وهماً، مع تلك المسرحية بشغف، وحرصوا على نشرها في كل صقع سواء بالتمثيل أو الخطابة أو الكتابة. وإليكم أحد نصوص الحوار الذي دار فيها بين الحجاج وسعيد:

الحجاج: ما اسمك؟

سعيد: سعيد بن جبير

الحجاج: بل شقي بن كسير

سعيد: أبي كان أعلم باسمي منك

الحجاج: لقد شقيت وشقي أبوك

سعيد: الغيب إنما يعلمه غيرك

الحجاج: لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى

سعيد: لو علمت أن ذلك بيدك ما اتخذت إلهاً غيرك

الحجاج: فما قولك في الخلفاء؟

سعيد: لست عليهم بوكيل

الحجاج: فاختر أي قتلة تريد أن أقتلك

سعيد: بل اختر يا شقي لنفسك، فواللّه ما تقتلني اليوم بقتلة إلا قتلتك في الآخرة بمثلها. وإنني أعوذ منك بما عاذت مريم بنت عمران بالرحمن إن كنت تقياً

الحجاج : لأقتلنك

فأمر به الحجاج فأخرج ليقتل. فلما ولى ضحك، فأمر الحجاج برده، وسأله عن ضحكه، فقال: عجبت من جراءتك على اللّه وحلم الله عنك. فلما ذهب به للقتل قال دعوني أصلي ركعتين.

قال الحجاج : وجهوا به القبلة واقتلوه. فلما فعلوا به ذلك قال سعيد: (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين). قال الحجاج: حولوا وجهه عن القبلة فحولوا وجهه لقبلة النصارى. فلما وجه قال سعيد بن جبير: (فأينما تولوا فثم وجه الله). فلما كبَّ لوجهه قال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وحد لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الحجاج غير مؤمن بالله. ثم قال: اللهم لا تسلط الحجاج على أحد يقتله من بعدي. قال رجل من حرس الحجاج أن سعيد بن جبير لما سقط رأسه إلى الأرض قال: لا إله إلا الله ثلاث مرات، قال مرتين كلاماً بينا وقال الثالثة بلسان منكسر. إ.هـ.

وقد تعرض هذا النص إلى زيادات كثيرة عجيبة، بالضبط كما تعرض مقتل الحسين! وقد اخترت أخفها وأخصرها.

قال الإمام الذهبي (سير اعلام النبلاء 4/332): هذه حِكاية منْكَرَة، غير صحيحة. رواها أبو نعيم فِي (الحلية). واستند الذهبي وغيره من المحققين في تكذيبها إلى كذب وضعف رواتها. فهذه الرواية بطولها في سندها أبو مقاتل السمرقندي حفص بن سلم: قال الذهبي في (المغني في الضعفاء): أبو مقاتل السمرقندي حفص بن سلم أحد المتروكين. وذكره برهان الدين الحلبي في (الكشف الحثيث عمن رمي بوضع الحديث) فقال: حَفْص بن سَالم أَبُو مقَاتل السَّمرقَنْدِي قَالَ السُّلَيْمَانِي: حَفْص بن سَالم الْفَزارِيّ صَاحب كتاب الْعَالم والمتعلم فِي عداد من يضع الحَدِيث. ورويت من طريق غيره وفيها مجهول هو إبراهيم بن يزيد الصفار. وقال الحافظ ابن كثير في ترجمة سعيد بن جبير (البداية والنهاية 9/104): وقد ذكرنا صفة مقتله إياه، وقد رويت آثار غريبة في صفة مقتله أكثرها لا تصح.

والآن أجبني: هل كان قبول الجمهور: عامة ونخبة لهذه المسرحية وأمثالها طبقاً لقواعد الشرع ومنطق العقل؟ أم تبعاً للتاريخ الذي كتبه الشعوبيون، وانسياقاً وراء العاطفة التي ركب هؤلاء موجتها ليغزوا عقولنا ويشكلوا ثقافتنا حسب ما يريدون ويشتهون؟

 

20/11/2014

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى