مقالات

في ذكرى رحيله التاسعة عشر صفحات من حياة الشيخ المهندس إياد العزي

د. طه حامد الدليمي

اياد

لا أدري من أين أبدأ رحلتي مع أخي وصاحبي وعضدي ورفيق دربي إياد العزي؟

كل حرف أحرك به إصبعي أضغط به على ذكرى كامنة كاللغم في طيات الفؤاد.. فكرة نابتة كالبرعم في ثنايا العقل.. كلمة نابضة كالحياة تسري في الشرايين.. ابتسامة دافئة.. ضحكة دافقة.. جلسة عمل.. رحلة دعوة.. زيارة شوق.. بوح محبة.. سياحة فكر وتبادل رأي طالما قلبناه على وجوهه فوق جمر القلوب: من أين الطريق؟ وما سبيل الخلاص؟ ونتفق ونختلف ولكن في موسم من الحب والحنان لا تنتهي فصوله.. ودمعة لا أنساها غالبت جفنيك يوماً فغلبتْه وأنت تراني وكأنك ترى حبيباً بعث من بين لجج الموت فعاد لحبيبه مرة ثانية ما كان يحسبها تعود! كان ذلك في نيسان 2002 يوم أشاع أهل بيت الدجل أنني قُـتلت، في حادث مشهور حصل لي في جامع المحمودية الكبير، ووصله الخبر المحرف في ليلة الحادث نفسها، ولم يكن الهاتف الجوال دخل العراق آنذاك، ولا الهاتف الأرضي يملكه الجميع، وكنت – وربما هو أيضاً – ممن خلت بيوتهم من الهاتف حتى حلت كارثة الاحتلال!

كم شهدت ربوع المحمودية واللطيفية واليوسفية لنا من رحلات دعوية، قد نتجاوزها إلى الحلة وجبلة وبغداد وهنا وهناك! وكم طرقتَ عليّ الباب، وكم رن جرس شقتك الحبيبة وانفرجا عن طلعة قمر أو طلة ثمر! وكم تحدثنا إلى ظل جدار، أو تحت شعاع شمس، أو لفنا ظلام ضحك لنا فيه بدر، أو أرسلت لنا فيه التحية نجمة ونحن ماشيان لا ندري بم تتكلم أو تناجي شهود الوجود!

آهٍ أيها الأخ الحبيب! كيف أقوى على الحديث عنك؟ وما السبيل إلى اختراق حاجز الزمن إليك، دون أن ألمس جرحاً من تلك الجروح التي تتخفى بين طيات الفؤاد؟

في نفسي آهة من لون آخر لا أعرف كيف أخرجها حين أذكرك فأرتاح! بمثلك تطيب الحياة، وتسهل الصعاب، ويشعر القلب بالطمأنينة. وعلى أمل لقاء مثلك هناك يخف الألم ويهون المصاب.

من هو إياد العزي ؟

تحتاج الكلمات مع أمثال إياد إلى (مسيح) آخر يبني من حروفها كهيئة البشر فينفخ فيها فتكون بشراً بإذن الله؛ تعيش معه وجهاً لوجه وتخاطبه كفاحاً وتتلامس الحياة في رحابه ثرة دافئة لتعرف من هو إياد! لهذا أنا أقف حائراً أمام البداية، وأثناء المسار، وكيف تكون خاتمة الحديث. فعذراً لأخي إياد فلن أوفيه حقه، وعذراً للكلمات فإني خجل منها، وعذراً لقارئها فلن أبلغ به ما أريد أو يريد في صفحات قليلة. وصاحب الذكرى ليس فرداً كغيره من الأفراد، وإنما هو جماعة في فرد هو أكبر من الجماعة، وظاهرة في مجتمع غائب عن الوعي لم يستفد منها! لهذا أدعو إلى دراسة موسعة عن هذا الشخص الفذ الشيخ المهندس إياد أحمد عطية العزي. وإلا لن يستطيع أحد أن يلخصه في عجالة من بضع صفحات!

الأخ إياد من قبيلة العز أو بني عز العربية القريشية الحسينية. تقطن عشيرته وأهله مدينة بعقوبة في قرية زُهرة. وقد زرتها أيام القصف الجوي الذي سبق الاحتلال ظاناً أنه لجأ إليها فلم أجده. ولكن وجدت قرية جميلة تسبح في وسط البساتين، يظلل بيوتها النخل وعرائش العنب، وتزينها الحدائق وتخفق في أبهائها أغصان الشجر. ولقيت أباه فأخبرني أن إياد بقي في بيته ببغداد. إذن هنا في هذه البيئة الوادعة الجميلة ولد صاحبي ونشأ؛ فليس غريباً أن يكتسب منها صفاتها فيكون فيه شموخ النخلة ورفعتها، وهدوء القرية ووداعتها، وجمال الشجر وأرج البساتين. وفي فترة صباه انتقل مع أهله الى محافظة بغداد في مدينة الحرية. تخرج مهندساً من الجامعة التكنولوجية قسم الإنتاج والمعادن سنة 1984. واستوطن المحمودية آخر الثمانينيات تبعاً لعمله في (منشأة القادسية) للتصنيع العسكري، وسكن في شقة بـ(عمارات القادسية) التابعة للمنشأة. وهناك عرفته.

التعارف

لا أدري على وجه الدقة كيف تعرفت عليه، لكن من المؤكد أن المسجد واللقاءات التي تعقد بيننا نحن الرفقة المتدينة هي التي جمعتنا وعرفت أحدنا على الآخر. لكن ما زالت في ذاكرتي أول صورة له فيها تصادفني حسب الظهور الزمني عندما أقلب ثناياها، يوم جاءني مع صديقي الحميم الحاج خميس سبع السعيدي يعزيني بوفاة أخي..

شاب يقاربني في العمر، يلبس دشداشة وغترة بلا عقال، يرخي طرفيها على صدره ويلفهما عبر متنيه إلى الوراء، عادة المشتغلين بالدعوة والعلم الشرعي. حيي لطيف يدخل القلب فيتمكن منه، قليل الكلام يبتسم بحنو كأنه يعانقك بابتسامته! لم يكن سمته – بحيائه الجم وكلامه القليل – ينبئ بأن هذا الشخص سيكون له شأن كبير في قابل الأيام. لكن هذا ما حدث؛ فقد كان من أبرز الذين أفصحت عنهم المرحلة من قيادات فذة، إن لم يكن أبرزها طراً! وكان (أبو سارة) بها جديراً.

بدأت قابلياته تتفتح قبل ذلك بحوالي عقد من الزمان، فكان داعياً ومفكراً له أثره الواضح المتقدم في كل مكان حل فيه. وله شخصية جاذبة تميزت بدفء وحنان وحنو وقابلية على الاستيعاب قل نظيرها؛ فكان مثل كوكب تدور حوله الأقمار. لم يصادفني مثله إلا الواحد بعد الواحد، منهم الحاج أبو عبد المنعم عبد الكريم رميض الجبوري، والأخ أبو أيمن محيي حمد نصار الكرطاني رحمهما الله. وكان له دوره الكبير في الدعوة والإصلاح ومتابعة الشباب المتدين في المحمودية وما جاورها. يخطب ويحاضر ويزور ويجالس ويتفقد إخوانه.

زارني مرة سنة 1995مع الحاج خميس أيضاً يوم كنت في الحلة وأخبرني أنه استلم رسمياً مسجداً في منطقة (گراغول) الريفية يخطب فيه الجمعة (أظن اسمه “جامع الأبرار”). باركت له عمله وإن أبديت رأيي في تفضيل أن يبقى مثله في الظل يمارس التغيير حتى لا يلفت انتباه الوشاة وخوف المسؤولين. في تلك الفترة فتحت كلية الشريعة قسماً للدراسة المسائية فبادر إلى دخولها فحصل على شهادة البكالوريوس في علوم الشريعة.

المسيرة

بعد رجوعي من الحلة إلى المحمودية صيف سنة 1997 توطدت علاقتي بالأخ إياد أكثر، وتداخل عملنا وكثرت زياراتنا لبعضنا حتى بتنا لا نكاد نفترق. وكانت زياراتنا ولقاءاتنا مشحونة بالنقاش وتبادل الرأي والحركة والعمل.

لم يكن انتماؤه لجماعة (الإخوان المسلمين) مثار خلاف بيننا في يوم من الأيام، ولم يخطر في البال لحظة أن هذا فارق مؤثر قط؛ كان يشغلنا العمل والعلاقة المثمرة وحاجتنا للتكاتف والتركيز على المشتركات، وما أكثرها! وكان للتجاذب الروحي والتقارب النفسي والحب الأخوي أثره العميق الجامع بيننا. وفيما عدا ذلك لم نتجاوز به طاولة الحوار أو النقاش حول بعض النقاط، منها قناعات للجماعة قديمة حيال الشيعة ومنهجية التعامل معهم، وكان هو يميل إلى رأيي. وفي زمن لم أعد أذكره على وجه التحديد قبيل الاحتلال قال لي يوماً: استمر على نهجك ودع لي مهمة التغيير الهادئ ضمن الجماعة في الاتجاه الذي تريد. وكان يختلف عني في أنه أكثر هدوءاً وبعداً عن مواطن الاستفزاز في طرح الفكرة. واختلفنا يوماً حول سيدنا معاوية ويزيد رحمه الله، وجئته بالأدلة وجاءني بما يعارضها، وكان في النقاش شيء من السخونة لم يتجاوز حمى الود والمحبة. ثم وجدته بعد فترة يعود إلى ما كنت أراه، وصار يتكلم به ويتبناه. ولو لم يفعل لما اهتزت قناعتي بحرصه على اتباع الحق، ولقلت واثقاً: هذا ما يحسبه حقاً. لقد كانت ثقتي به عالية؛ فأخلاقه ومسيرة حياته تُجبرك على هذه القناعة. واستمررنا على علاقتنا الأخوية الحميمة والدعوية الوثيقة حتى بعد رحيله إلى بغداد في حوالي سنة 2000.

كان ساعياً في الإصلاح وتقريب وجهات النظر. يساعده في ذلك سعة صدره ودفء كلمته وبعد نظرته، وإن كانت تعروه في بعض الأحايين غضبة. في فترة من الفترات حصلت مشاكل بين العاملين بالدعوة في حقل الجنوب، وتعقدت رغم كل المحاولات التي بذلناها لعلاجها؛ وكان السبب – فيما أرى – الانحياز الفكري الذي يؤدي إلى إهمال النظر في الواقع والواقعة. وكان الأخ إياد – بحكم العلاقة وممارسة الواقع والاطلاع المستمر على حيثيات المشاكل – عارفاً بالحالة. فقال لي: لم يبق إلا الحاج أبو عبد المنعم يمكن أن يكون باباً لحلها. وكان رأياً صائباً تبعته لقاءات كان أحدها في بيته في حي الشرطة الرابعة ببغداد، وتقرر فيه – بناء على طلب مني – أن يذهب مجموعة إلى الجنوب للاطلاع المباشر وعدم الاكتفاء بالسماع. وذهب هو والحاج أبو عبد المنعم فانقلبت بهم السيارة على مشارف الديوانية فكسرت يده ومات أبو عبد المنعم في الحادث رحمه الله. وانتهى الأمر إلى هنا، فتعقدت المشاكل. لقد مات أبو عبد المنعم، وتوقف أبو سارة؛ فخلا الميدان من فرسان الإصلاح. وحين يزهد الزعماء في حل مشاكل العمل والعاملين فلا ينتظرن فلاح يهمل زرعه فلا يعالجه من الآفات سوى الخراب. وهكذا كان!

بعد الاحتلال

كنت – بعد وقوع العراق تحت نِــير الاحتلال – كثيراً ما أزور الأخ (أبو سارة).. أذهب إليه في بيته في حي الشرطة الرابعة، أبث إليه همومي، وأفضي إليه بهواجسي وأسراري. ولعلني أجد عنده بارقة حل لما نحن فيه. ونصحني آنذاك بالخروج من العراق، على أمل تدبر إقامة لي في إحدى الدول العربية؛ فما عاد لي في البلد ملاذ آمن. قلت له: كيف أخرج من البلد وهو في هذه المحنة، وأترك إخواني لمصيرهم؟! ليس هذا من الوفاء في شيء. وإنه ليحطم كل ما بنيته، ويجعل الناس يفقدون ثقتهم بمصداق قضيتنا.

وقال لي في تلك الأيام: وعدنا الأمريكان بالجلاء بعد سنتين، فننتظر لعلهم يفون بما وعدوا. وإلا فحرق الأرض تحت أقدامهم هو الخيار. وليس هذا بالصعب علينا إن شاء الله. ومن الطبيعي أن يكون موقفه متوائماً مع موقف الحزب الإسلامي؛ فهو أحد أبنائه وأعضائه. ولقد كان صادقاً في قوله في خاصة نفسه، فأنا أعرفه جيداً. كان مع الجهاد بقلبه ولسانه ويده، رغم حراجة العمل؛ فهو شخصية سياسية تنتمي لحزب مشارك في العملية السياسية. ثم كان رحمه الله من المؤسسين الفاعلين لفصيل (جامع) [مختصر (الجبهة الإسلامية للمقاومة العراقية)] التابع للإخوان المسلمين، والذي تأسس بعد عام من الاحتلال.

برزت القابليات القيادية للشيخ المهندس إياد العزي بعد الاحتلال فكأنها نشطت من عقال. وتقدم الصفوف سريعاً، واستلم المناصب بجدارة. وكان زاهداً فيها ملجَــأً إليها. كلمني يوماً بمرارة عن برَمه بوجوده في الجمعية العمومية التي تشكلت كبرلمان للحكومة المؤقتة، وكيف أن نفسه تضيق كثيراً وتقرف من مجرد رؤية أعضائها، فكيف بالتعامل معهم! وقال: “والله لولا واجب الطاعة للجماعة لما دخلتها قط”. فتذكرت جريج ودعاء أمه عليه أن لا يميته الله حتى يرى وجوه المومسات! وحدثني عن موقف حصل له مع الشيعي الشعوبي علي الأديب (وهو الشخص الثاني في حزب الدعوة) قائلاً: لا هو علي ولا هو أديب، تكلم يوماً فانتقد السنة في عدم مؤازرتهم للشيعة في (انتفاضتهم) سنة 1991 واصفاً الشيعة بـ(الأغلبية). فنظرت فلم يجبه أحد وبقي الجميع سكوتاً! فقلت له: بسبب طائفيتكم هذه لم نقف معكم؛ من أخبرك أن الشيعة أغلبية في العراق؟ وما الدليل عليها؟ وهل هناك إحصاء أو قاعدة معلومات استندت إليها؟ يقول الأخ إياد: فأخرس فلم يرد كأنه ألجم بلجام! فإذا بالدكتور محسن ينطلق لسانه فيرد عليه! وحتى مشعان الجبوري (هذا الما يعجبك) قام فرد عليه!

وليس ذلك بمستغرب على الشيخ إياد؛ فهو صاحب المواقف الشجاعة النبيلة منذ أن عرفته. كان الوحيد – من بين جميع الإسلاميين في السنة الأولى للاحتلال – الذي هاجم رموز الخيانة على رؤوس الأشهاد. قال في لقاء على إحدى القنوات الفضائية: “هناك من يتاجر في سوق العواطف، ويرقص على الآهات. لا حاجة لنا بمتاجرة رخيصة، لا من موفق الربيعي، ولا من غيره. وعندما سأله مقدم البرنامج: هل تعتقد أن موفق يتاجر؟ كان جوابه واضحاً بيناً حين قال بعد برهة: نعم، يتاجر، يريد أن يقطف ثماراً، إن كان هناك ثمار”. زرته بعد أيام في مكتبه باليرموك فشكرته على موقفه وقلت له: أتدري ماذا كنت أفعل عندما سألك المقدم وتوقفت هنيهة قبل أن تجيب؟ كنت أقول لك بحماس المشجعين وأستحثك كأنك عندي: “قلها.. قلها أبا سارة! أنت لها.. أنت لها”! ولما قلتها أخذتني نشوة وصحت مكرراً: “عفية أبو سارة”! فابتسم وقال: “ليس هؤلاء أكثر من أدوات لا قيمة لها ندوس عليها بأقدامنا ونرتقي إلى أعلى من خلالها”!

يختلف أبو سارة عن بقية السياسيين في أنه دخل ميدان السياسة من أجل الدين وخدمة الناس، وبنية الجهاد؛ فكانت – حسب اجتهاده – أداة من أدوات الإصلاح عنده. ولم يكن المنصب همه يوماً. ولم يغيره المنصب، ولا أظن بصره زاغ لحظة أو طغى أمام أي عنوان من العناوين التي امتلكها بحكم عمله في الحزب أو الدولة. لهذا كان جاداً في أدائه، يقول الحق غير هياب، ويتجرأ على كل فعل فيه نفع للمجموع، أو تخفيف عن معاناتهم، أو مشاركة لهم في آلامهم وآمالهم. ومن ذلك ما أقدم عليه من إقامة اعتصام شعبي عند أسوار سجن أبي غريب ثلاثة أيام. رغم معارضة الحزب الإسلامي – كما أخبرني هو بذلك – فقد كانوا يتوقعون مهاجمة الاعتصام من قبل الأمريكان. لكنه أصر على إقناعهم بأن يتحمل هو وحده مسؤولية ما قد يحدث. وأضاف: “وحتى تكاليف الاعتصام سأتحملها أنا دونكم”. وكان عملاً جليلاً رائعاً خفف عن المعتقلين ولمس بيد الآسي جراحهم وجعلهم يحسون حقاً بأن إخوانهم لم ينسوهم، ولم يتخلوا عنهم، وأنهم يبادلونهم الشعور بالشعور، ويبذلون ما

بوسعهم لإنقاذهم. وكانت التكبيرات من الخارج والداخل تتجاوب فيما بينها، في مشهد يخلب الألباب ويستجيش العواطف، ويفور بالدموع! وجاء يوم الجمعة فخطب العزي في الجموع، وسمع المعتقلون صوته من خلال مكبرات الصوت يصرخ بالنكير على ظلم المحتلين، ويصبر المظلومين، ويبشرهم بقرب الخلاص. وتساءلوا فيما بينهم: من هذا الحر النبيل؟!

وعندما ثبت نجاح الاعتصام دون خسائر أو تبعات ذهب د. علاء مكي عضو المكتب السياسي للحزب الإسلامي بعد أيام إلى البصرة فصنع (اعتصاماً) مماثلاً عند جدران سجن (بوكا). وفاز أبو سارة بعمل الشجعان السابقين، وبتصنيع النسخة الأصلية الوحيدة التي تستعصي على التقليد. ولذلك حفظ الزمن ذكر ذاك الاعتصام، وعاقب الآخر بالنسيان. المشكلة أن النسخ التقليدية للزعامة لا تدرك أن القيادة لا تكون للمخلفين (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النساء:141)، أو كما قال تعالى: (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا) (النساء:72،73). وهؤلاء لا يحبون الناصحين.

من مواقفه النبيلة

وهذا ديدنه – رحمه الله – في مواقفه، ومواقفه كلها رفيعة شامخة أصيلة. في أزمة اشتدت عليّ قبيل الاحتلال استدعاني وكيل وزير الأوقاف إلى لقاء أشبه بالتحقيق بيني وبين ممثلي لجنة التوعية في العراق وبغداد والمحمودية. وكان الأخ إياد على علم به ومتابَــعة للأحداث التي كانت تجري. لم أكن أعلم أنه قد ذهب مع نائب رئيس لجنة التوعية في المحمودية، وهو صديقي، إلى رئيس لجنة توعية بغداد/الكرخ، وأنا لم أطلب منه ذلك، يستحثه على حضور اللقاء مدافعاً عني. حدثني بذلك صاحبي الذي رافقه، وقال: لو تدري كم ترجى الأخ إياد فلاناً وتوسل إليه وهو يأبى ويتمنع! ويقول: لقد أحرجنا د. طه بمشاكله أمام الوزارة. وقال له إياد: القضية تتجاوز الخلافات الشخصية والمشاكل الوظيفية. إن عزل د. طه معناه هزيمتنا أمام الخصوم وشماتتهم بنا وهو نصر لهم. وإن لخلافنا سقفاً هو التوحد أمام الخصوم. نختلف ولكن ليس إلى درجة البقاء متفرقين في مقابل العدو. وأضاف صاحبي ما انعقد له لساني فقال: لقد دهشت لما رأيت الشيخ إياد – بعد أن أعيته الحيل – يهوي على يد رئيس اللجنة يقبلها مطلقاً آخر رجاء أن يكون ضمن الذين يحضرون لقاء الوكيل. سبحان الله! ولكن هكذا هو شأن العظماء الرحماء، الذين يتعاملون مع الأشياء بقلوبهم قبل عقولهم، وعقولهم قبل نفوسهم. أما الآخر فظل جامداً على موقفه معتذراً بأن لديه شغلاً يوم اللقاء!

وكانت مواقفه النبيلة متعددة ومتنوعة. في رحلة حج لم تتم عملتها الحكومة لإحراج السعودية ذهبت إليه فاستدنت منه (200) دولار. وكان هذا المبلغ في تلك الأيام كبيراً خصوصاً على موظف في العراق يعيش على راتبه. وبعد العودة زرته مسلماً ولأرجع إليه المبلغ، فرفض قائلاً: أنا منذ أن سلمتك الفلوس نويت في نفسي أن لا أسترجعها منك. وصرّفت المبلغ – ولم أكن أملك غيره – بـ(400,000) دينار، اشتريت بها قطعة أرض في حي الزهور باللطيفية مساحتها (300 م2)، كانت أساساً لأن أشيد عليها بيتي هناك. ويزورني يوماً في ذلك البيت فيرى سنادين ورد معروف عندنا بـ(ورد الصباح) زاهية الألوان فأعجبته الورود بألوانها فأراد بعضاً منها. فجمعتها كلها ووضعتها في جيب سيارته. وكيف لا، ولو أراد الحديقة كلها، ولو أراد البيت لخرجت له منه!

ذكرتُكِ يا ( لَطِيفيهْ )

ذكرتُكِ ..

يا لهيباً يلتظَّى فيَّ

ذكرتُكِ ..

يا مغاني العزّْ

ذكرتِكِ ..

والهوى أغصانُهُ تهتزّْ

تضُوعُ بمِسكِها الأذفرْ

ذكرتُ ..

شقائقَ النعمانْ

على شُرُفاتِ منزلِنا

تُطِلُّ بلونِها الأحمرْ

ذكرتُ ..

شُجيرةَ الرمانْ

تَمايَـلُ في حديقتِنا

يُعشعِشُ تحتَها القُنْبَرْ

ذكرتُ ..

( صفائحاً ) كنا

نوزِّعُها على الحيطانْ

« ورودُ الصبحِ » من أطرافِها تنظرْ

ذكرتُ ..

الصحبَ والخِلانْ

ذكرتُ ..

منازلَ الجيرانْ

وقد مرتْ بنا سنتانْ

على تاريخِ فُرقتِنا

وأربعةٌ من الأشهرْ

فسالَ الدمعُ رقراقاً

وراحتْ تهمسُ الشفتانْ :

« لطيفيهْ ! .. لطيفيهْ ! »

فحَبْحَبَ في فمي السكَّرْ

 

وأكتبُها ..

فتضحكُ صفحةُ الدفترْ !

وأنثرُها ..

فتحضنُني حقولُ القمحِ والعنبرْ

وتُنشدُ لي سنابلُها

نشيداً كحَّل الأسحارَ

أنغاماً أثيريهْ :

« لطيفيهْ ! .. لطيفيهْ ! »

المفكر المبدع

كل هذا وغيره كان يتحلى به الأخ إياد العزي. إلا أن أبرز ما تميز به من مزايا قيادية – إضافة إلى الكرم والشجاعة وعلو الهمة وقابلية الاستيعاب – عقل منتج للأفكار البديعة أولاً، ثم ذهن له قدرة نادرة على تلخيص المعنى الكبير في عنوان صغير. وهذه من أهم مزايا القائد.

انظر إلى هذه الكلمة الحكيمة: “السنة عبادة بلا قضية، والشيعة قضية بلا عبادة”! يا لها من لقطة رائعة.. صورة ثلاثية الأبعاد للمشهد العراقي! جمعت بين الصورة والحقيقة، العرَض والمرض، الشكوى والتشخيص!

وتأمل هذه العبارة: “عمقنا في الريف، وميزاننا في المدينة”، كم تنضح بالمعاني، وتحرك الأفكار! وكيف ترسم منهجاً متوازناً للعمل بين الريف والمدينة!

ومما قاله لي عن معاناته بعد الاحتلال ودخول الإخوان المسلمين ميدان العمل السياسي: “ما زال الإخوة يواجهون متطلبات الدولة بأدب الدعوة”. كنت أنظر إليه فأجده غريباً عنهم؛ هو في واد وهم في وادٍ آخر!

ذهبنا معاً يوماً إلى مقر من مقرات الحزب الإسلامي يقع في (ملجأ العامرية)، كان على موعد في اجتماع مع قادته، وأنا أريد المرور على إدارة (مجلة الرائد) هناك. قال لي ونحن نلج إلى الداخل: كنت أظن القيادات القادمة من الخارج تمتلك مؤهلات سياسية استثنائية. ومر على ذلك شهر وأنا صامت أستمع إليهم، فإذا هم متخلفون عنا بمسافة ليس من السهل ردمها. فتكلمت فكان الخلاف وكانت المعامع وإلى الآن. وقبل أن يمد يده إلي بالمصافحة ليدخل قاعة الاجتماع قال مبتسماً: وها أنا ذاهب إلى معمعة جديدة.

النهاية

كانت آخر لحظة لي معه في باب مكتبه في (مجمع القدس) بحي الجامعة ببغداد. جئت إليه أودعه قبل هجرتي من العراق بداية حزيران/2005. لا أذكر ماذا قلت له أو قال لي. لكن أذكر أنني زرته في بيته قبيلها بأيام فقلت له: “ستواجهون مشكلة كبيرة مع الجمهور الإسلامي حول موقفكم من الديمقراطية؛ فأدبيات الإخوان القديمة تميل عنها وتندد بها، وتجعلها نقيضاً للحاكمية التي هي أس الجماعة ومبرر وجودها. عليكم أن تخرجوا بمعادلة شرعية سليمة تجمع بين دخولكم العملية السياسية وتبنيكم مبدأ الحاكمية. أما علاج الحالة بتجاهلها ومحاولة صرف أنظار الجمهور عنها فلن يجدي شيئاً. وما أجابني به الأستاذ طارق الهاشمي عن ذلك لا يقنع مسلماً عنده معرفة بأوليات العقيدة ولا يرضيه. قبل ذلك بشهور كنت قد سألته عن موقف الحزب من الديمقراطية؟ فكان جوابه: “لم نتخذ بعد موقفاً معيناً”. ثم قام إلى المكتبة وبحث فيها ليهديني كتاباً صغير الحجم من تأليف الدكتور عبد الكريم زيدان، قلبته فوجدته ينتقد الديمقراطية ويبطلها. لم أشأ أن أحرج صاحبي بالقول: لكن هذا ليس هو موقف الحزب الإسلامي اليوم منها. وأخذت الكتاب معي وخرجت.

ثم سافرت إلى سوريا، وكنت أتابع الأخبار من هناك. وكان السياسيون في العراق مشغولين بكتابة الدستور والتثقيف له. لكن الحزب الإسلامي شن حملة ضده استمرت قرابة شهرين قبل الانتخابات المزمع إجراؤها في 15/12/2005. وكان هذا هو موقف السنة منه. وشارك أبو سارة في هذه الحملة. وفجأة وبلا مقدمات إذا بالحزب يعلن موافقته على الدستور وفق شروط لم تر النور بعد ذلك أبداً. وظهر طارق الهاشمي يبرر ذلك وإلى جانبه الأخ إياد؛ فكأنه يريد أن يستر وجهه به. قلت: أنا أعلم أن أبا سارة في قرارة نفسه رافض، ولكن هذه هي نتائج الخضوع لحاكمية المجموع. ما كان أغناك عنها يا أبا سارة! وتمنيت أن لا يقع مثله في هذا الخطأ الذي سيسيء إليه في سمعته. لكنني ما كنت أحسب أنه قد يكون سبباً إلى نهايته!

وفي 28/11/2005 أي بعد ذلك بأسبوعين فقط طرق قلوبنا خبر الفاجعة! لقد قتل أبو سارة! قتل أخي وصاحبي وعضيدي ورفيق دربي! وتجللت المنابر بالسواد لرحيله، وإن هللت المقابر لقدومه فلبست حلل السماء خضراء بيضاء زينة الناظرين. واتهم بقتله تنظيم (القاعدة في بلاد الرافدين). وأصدر التنظيم بياناً لم يعترف فيه ولم ينف مسؤوليته عن قتله. ولا أستبعد أن يكون قتله جرى على أيديهم؛ فهم لا يفرقون بين من يؤمن بشريعة الله مرجعاً للحكم، لكن يقول بالمشاركة في العمل السياسي للضرورة، وبين من ينفي صلاح الشريعة من الأساس لحكم الناس. ويساوون بين الفريقين في التكفير المخرج من الملة. والله أعلم بمن لم يَخَفْ عقباها.. فكان أشقاها.

وهكذا فقد أهل السنة علماً من أعلامهم، ما إن ارتفع يشق العنان حتى هدمت قاعدته وكسرت ساريته. أحياناً أعلل نفسي فأقول: لعل الله أحبه فأخذه؛ فما أدراك أنه سيظل على استقامته في وسط موبوء بالعوج.. يبرره ويفلسفه ويراودك عن نفسك إليه؟ فليذهب حميداً فلقد عاش كذلك؛ فما أكثر الذين لم يموتوا حتى تمنيت أنهم ماتوا من قبل عشرين سنة!

هنيئاً أخي ! قد دفعتَ الثمنْ
أتحسَبُ أني اعتراني حَزَنْ
لتضحى جنانُ الخلودِ وطنْ
ولستُ الذي يبكي فوقَ الدِّمَنْ
وسلعةُ ربي هيَ الغاليةْ
على أن تركتَ لنا الفانيةْ

قطوفُ الأماني بها دانيةْ

على ساكني الغرفِ العاليةْ

30/11/2014

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى