تصحيح مفاهيم خاطئة لحديث( لو كان الإيمان عند الثريا… ) (1)
د. طه حامد الدليمي
يؤسفني أن أعترف بأن الثقافة الشعبية للجمهور العربي والإسلامي تشوبها السموم الشعوبية بنسبة كبيرة؛ وذلك لأربعة أسباب رئيسة، إضافة إلى ماكنة الدعاية الفارسية، وهي:
- تاريخنا كتب بأقلام عربية، لكن بشفاه فارسية.
- حكايات فاضت بها كتب الأدب والنوادر والطرائف.
- روايات ضعيفة وموضوعة شاعت كثيراً، مثل رواية (سلمان منا أهل البيت)، وكمٌّ زاخر من أمثالها. وبعضها وجدت لها من يصححها بشواهد ومتابعات؛ مركزاً على السند دون المتن، وهو إجراء شائع رغم مخالفته أصل علم الحديث، وهو تعريف الحديث الصحيح. وعادة ما يكون هؤلاء بعيدين عن مواطن الاحتكاك بالشعوبية الفارسية.
- فهوم خاطئة لأحاديث في دواوين صحيحة للحديث. وهو موضوع مقالتي.
لقد انطلى على الكثيرين دعوى الشعوبيين أن المبرزين من علماء الأمة هم من الفرس لا من العرب. ويكفيني في هذه العجالة أن أذكر أن أئمة المذهب الفقهية السنية أربعة: ثلاثة منهم عرب هم الإمام مالك (ت 179هـ). وهو عربي الأصل أصبحي. ثم الإمام الشافعي (ت204هـ) وهو عربي قرشي: يتصل نسبه برسول الله e في الجد الثالث عبد مناف. ثم الإمام أحمد (ت241هـ ) وهو عربي من بني شيبان من عرب العراق. هذا إذا تجاوزنا ما قاله بعض الباحثين عن عروبة الإمام أبي حنيفة النعمان، وقدموا له أدلة قوية([1]). وإذا أضفنا إلى القائمة المذهب الزيدي، وهو مذهب معتبر يصبح العدد أربعة من خمسة لصالح العرب. فالإمام زيد بن علي عربي هاشمي. ولم أشأ أن أتكثر بإضافة الإمام جعفر بن محمد؛ لعدم وجود مذهب فقهي له محفوظ لا عند الشيعة ولا عند أهل السنة. وقد أثبت هذا في كتابي (أسطورة المذهب الجعفري).
أما أقدم كتاب في الحديث فهو موطأ الإمام مالك، ثم مسند الإمام الشافعي. ثم مسند الإمام أحمد، وهو موسوعة حديثية ضمت حوالي أربعين ألف حديث عن النبي e. وهؤلاء كلهم عرب، كما أسلفت. وإذا كان الإمام البخاري (ت256هـ) أعجمياً، فهو أولاً: لم تثبت فارسيته، وثانياً: فإن الإمام مسلم (ت261هـ) عربي من قبيلة قشير العربية. ونسبته إلى نيسابور نسبة مكان لا نسب. ومن أئمة الحديث العرب أبو داود (ت275هـ) صاحب السنن، فهو عربي من الأزد. وغيره كثير.
وإمام اللغة بلا منازع هو العربي الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب أول معجم في اللغة (العين)، ومكتشف علم (العروض)، وكان إماماً متفرداً في علم النحو وغيره من فنون لغة العرب. ومن تلاميذه سيبويه الذي نسب إليه الكتاب المعروف بـ(الكتاب) في النحو؛ فقد ذكر الإمام ثعلب أنه في الأصل إملاءات الفراهيدي على أربعين من تلامذته أحدهم سيبويه. ذكر ذلك الشيخ محمد سعيد العرفي في كتابه (الأمة العربية وسر انحلالها)، وبين أن اليد الشعوبية هي التي قامت بجمعه ونسبته إلى سيبويه، ورفعت من شأنه، وتغافلت عن الفراهيدي كي يقال: إن إمام لغة العرب فارسي لا عربي. والأمر في حاجة لدي إلى تحقيق أعمق. على أنه ليس بضائر أن يكون ضمن إكليل علماء الأمة فرس وترك وبربر وهنود وغيرهم من الأعاجم الذين أكرمهم الله بالإسلام، أو بالعيش في ظل حضارته، التي حمل العرب مشعلها الأول، ليسلموه إلى بقية الأجيال في أمة كبيرة عظيمة، اختلط فيها العرب بالعجم؛ فكان من الطبيعي أن يأخذ كل قوم حظهم من معطيات حضارتها حسب نسبتهم. وليس بمستغرب أن يكون الكثير من علماء الأمة، أو أكثرهم من غير العرب؛ فنسبة العرب العددية وسط أولئك الأقوام هي الأقل مقارنة بالمجموع.
وهناك ناحية جديرة بالانتباه هي أن أولئك العلماء نتاج بيئة عربية إسلامية لا بيئة فارسية مجوسية، وهي بيئة منتجة للعلم والحضارة على العكس من البيئة الفارسية، التي لا تهتم بغير الحروب. وكثير منهم نسبوا إلى الفرس وليسوا منهم، كأبي حنيفة والبخاري.
حديث ( لو كان الإيمان عند الثريا … )
أشكل على البعض ما رواه الإمام البخاري عن أبي هريرة t قال: كنا جلوساً عند النبي e فأنزلت عليه سورة الجمعة: (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) قال: قلت: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثاً. وفينا سلمان الفارسي، وضع رسول الله e يده على سلمان ثم قال: (لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال أو رجل من هؤلاء). وفي رواية (لناله رجال من هؤلاء) دون تردد. وفي رواية لمسلم بلفظ: (لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس، أو قال: من أبناء فارس حتى يتناوله). وله بلفظ (لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء). ورواه أحمد بلفظ (لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء). وبلفظ (لو كان الدين عند الثريا لذهب رجل من فارس أو أبناء فارس حتى يتناوله). كلهم عن أبي هريرة.
فقد رأيت من توهم فراح يتصور أن في الحديث مدحاً للفرس بإطلاق، دون التفات لمتن الحديث من ناحية اللغة واتساق التعبير مع المقصود أو المفهوم، ودون اعتبار للمعطيات المناقضة للمفهوم الموهوم على أرض الواقع، والتاريخ الدامي والمليء بالدس والتآمر، والتخريب والتحريف والتخريف والتخلف، والكوارث التي لم تصب الأمة بمثلها أبداً! وذلك على يد الفرس! ولو لم يكن إلا التشيع لكفى به تخلفاً وشراً! فالعقلية الفارسية عقلية خرافية الطبيعة، خرافية النتاج، والتشيع شاهد.
لفظ الحديث : ذم أم مدح ؟
ولو عدنا بالنظر إلى نصوص الحديث لوجدناها تتحدث عن رجال من الفرس يؤمنون ويدينون بدين الإسلام. وليس في هذا نُكرة ولا غرابة؛ فإن الأمم كلها قد دخل في دين الإسلام منها رجال، آمنوا بهذا الدين وحملوه إلى غيرهم.. وفي ذلك يقول ابن حجر في (فتح الباري) عند شرح الحديث: “ووقع في بعض طرقه عند أحمد بلفظ (لو كان العلم عند الثريا). قال القرطبي: وقع ما قاله e عياناً فإنه وجد منهم من اشتهر ذكره من حفاظ الآثار والعناية بها ما لم يشاركهم فيه كثير من غيرهم”. وهذا من باب قوله تعالى عن اليهود والنصارى وأمثالهم: (لَيْسُوا سَوَاءً) (آل عمران:113) إ.هـ. قلت: ولسنا ننكر ذلك، ولا ننفسهم عليه. ولكن قد آمن رجال من اليهود أيضاً منهم الصحابي الجليل عبد الله بن سلام، وآمن كذلك كثير من النصارى فكان منهم العلماء والعباد والمجاهدون. وليس أن يقع مثله من الفرس ببدع من الحوادث، أو خوارقها! لكن ما ميزة الفرس على غيرهم في ذلك حتى يكون لهم من التخصيص ما فهمه عامة قراء الحديث؟! وما ادعاه القرطبي في حاجة إلى تدليل. وهذا ما يدعونا إلى دراسة الحديث مجدداً من حيث المتن وعلاقته بالأبعاد الاجتماعية والتاريخية. فالنبي e أوتي جوامع الكلم، ولا ينطق بكلام مخصِّص إلا وفيه تخصيص. ولا أجد فرقاً يجعل النبي e يخصصه به سوى مناسبة وجود سيدنا سلمان الفارسي t، وهو أمر لا يدعو إلى التخصيص.
هذا إذا أخذنا بلفظ الجمع (رجال). أما إذا أخذنا برواية الإفراد: (لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجل من هؤلاء) – وهي رواية صحيحة متفق عليها – فالأمر يخف كثيراً ؛ فقد يكون المقصود به سلمان نفسه، وقيل: أبو حنيفة رحمه الله، وهو ضعيف. وعندها لا يحتاج الموضوع إلى تعليق أصلاً! بل الحديث أقرب إلى الذم منه إلى المدح؛ وهو بعيد عن مقام النبوة.
(لو كان العلم …) ؟ أم ( لو كان الإيمان … ) ؟
روى الإمام أحمد في (المسند): حدثنا إسحق بن يوسف، وهو الأزرق، أخبرنا عوف عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة، قال: سمعته يقول: قال رسول الله e: (لو كان العلم بالثريا لتناوله أناس من أبناء فارس).
وشهر بن حوشب مولى الصحابية أسماء بنت يزيد الأنصارية. واختلف في توثيقه (سير أعلام النبلاء، 4/372 وما بعدها). وضعف شعيب الأرنؤوط الحديث من أجل شهر بقوله: إسناده ضعيف لضعف شهر بن حوشب (مسند الإمام أحمد، 6/92، النسخة الموصلية)[2].
إنما هو (الإيمان والدين). وليس من شرطهما البروز في العلم.
وعلى أية حال فالحديث يمكن أن يكون إشارة إلى قلة الدين والإيمان في أمة الفرس؛ فأن ينال رجل أو رجال منها الدين أو الإيمان – أو حتى العلم – أمر في غاية القلة. فهو إلى الذم أقرب منه إلى المدح، كما أسلفت. والله تعالى أعلم.
_________________________________________________________________________________
[1]– انظر كتاب عروبة الإمام أبي حنيفة النعمان للدكتور ناجي معروف، على الرابط التالي:
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8
[2]– وعوف، الذي حدث عن شهر (إن كان ابن أبي جميلة بن سهل الأعرابي): مولى فارسي قدري شيعي رافضي. (سير أعلام: 6/384) وأضاف العقيلي عن بندار: والله لقد كان عوف قدرياً رافضياً شيطاناً (الضعفاء الكبير: 3/429). وقد حققت الحديث بأوسع من هذا في بحوث لاحقة تجدها في آخر الجزء أو المجلد العاشر.