مقالات

حديث ( لو كان الإيمان عند الثريا…)

د. طه حامد الدليمي

لفظ الرواية مدح للفرس أم ذم ؟ 

توجد أحاديث في دواوين الحديث يفهم من ظاهرها ما فيه مدح للفرس بإطلاق، دون اعتبار لكل المعطيات المناقضة على أرض الواقع والتاريخ الدامي والمليء بالدس والتآمر والتخريب والتحريف والكوارث التي لم تصب الأمة بمثلها أبداً على يد الفرس! ولو لم يكن إلا التشيع لكفى به شراً!

فقد روى الإمام البخاري قال: حدثني عبد العزيز بن عبد الله، قال: حدثني سليمان بن بلال عن ثور عن أبي الغيث عن أبي هريرة t قال: كنا جلوساً عند النبي e  فأنزلت عليه سورة الجمعة (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) قال: قلت: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثاً. وفينا سلمان الفارسي، وضع رسول الله e يده على سلمان ثم قال: (لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال أو رجل من هؤلاء).

وروى مسلم الحديث بسندين: الأول يلتقي مع سند البخاري: عن عبد العزيز يعني ابن محمد عن ثور عن أبي الغيث عن أبي هريرة. بلفظ (لو كان الإيمان عند الثريا، لناله رجال من هؤلاء). والآخر: حدثني محمد بن رافع (حدثنا)، وعبد بن حميد (أخبرنا) عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن جعفر الجزري، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله e: (لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس – أو قال – من أبناء فارس حتى يتناوله). الأول بالجمع (رجال) والثاني بالإفراد (رجل).

ورواه أحمد في (المسند) بسندين: أحدهما: حدثنا إسحق بن يوسف، وهو الأزرق، أخبرنا عوف عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة، قال: سمعته يقول: قال رسول الله e: (لو كان العلم بالثريا لتناوله أناس من أبناء فارس). والآخر: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن جعفر الجزري عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله e: (لو كان الدين عند الثريا لذهب رجل من فارس – أو أبناء فارس – حتى يتناوله). الأول بلفظ (العلم).

ولي عند هذه الرواية وقفتان: الأولى عند المتن، أبين فيها أن المتن لا دلالة فيه على ما ذهب إليه المتوهمون من فضل علماء الفرس. أرجو الانتباه إلى أنني لا أنفي الفضل لأهله مطلقاً، وإنما دلالة الرواية على ذلك. والثانية عند السند أبين فيها أن الرواية ليست على شرط البخاري ومسلم؛ فلا يصح أن تنسب إليهما بإطلاق كما تنسب الأحاديث التي فيهما على شرط الشيخين. وهذه مسألة دقيقة ومعقدة تمثل ثغرة يدخل منها الزائغون، وتنفذ منها الشبهة إلى عقول غير المدققين.

 

أولاً : متن الرواية

الإيمان أم العلم ؟

لم ترد الرواية بلفظ (العلم) في (الصحيحين)، لكن وردت في مسند أحمد في إحدى روايتيه، والرواية الثانية كانت بلفظ (الدين). فموضوع العلم عند النسبة إلى (الصحيحين) يخرج عن نطاق الاحتجاج؛ فليس العلم هو موضع النقاش، إنما الدين والإيمان. ولا علاقة شرطية بين الأمرين؛ فقد يرزق المرء إيماناً ولا يرزق علماً. قال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (المجادلة:11). وعند النسبة للمسند فيحتاج الأمر إلى تحقيق وترجيح؛ فالنبي e إما قال: (العلم) أو قال: (الإيمان). والدين مقارب للفظ الإيمان. والترجيح ظاهر إلى جانب (الإيمان) لا جانب (العلم). فلا حجة في المتن للدلالة على الثناء على علم أبناء فارس وتميزهم.

 

رجال ؟ أم رجل ؟

  1. الرواية بلفظ الجمع ( رجال )

لو أعدنا النظر في نصوص الحديث لوجدناها تتحدث عن رجل أو رجال من الفرس يؤمنون ويدينون بدين الإسلام.

فإن إخذنا بلفظ (رجال) فليس في هذا نكرة ولا غرابة، حتى لو كان المقصود هو العلم؛ فإن الأمم كلها قد دخل في دين الإسلام منها رجال، آمنوا بهذا الدين وحملوه إلى غيرهم. وقد وقع ما أخبر به النبي e فآمن من الفرس رجال، وكان منهم العلماء والدعاة والمجاهدون في سبيل الله. ولسنا ننكر ذلك، ولا ننفسهم عليه. وهو من باب قوله تعالى عن اليهود والنصارى وأمثالهم: (لَيْسُوا سَوَاءً) (آل عمران:113). وقد آمن رجال من اليهود منهم الصحابي الجليل عبد الله بن سلام t، وكثير من النصارى فكان منهم العلماء والعباد والمجاهدون. وليس أن يقع مثله من الفرس ببدع من الحوادث، أو خوارقها!

ومن حيث دلالة كلمة (رجال) على العدد؛ فاللفظ يصلح لاثنين فأكثر. بل قد يصلح للواحد؛ فإن الجمع يمكن أن يعبر به عن الواحد في لغة العرب. وهنا يمكن الجمع بين اللفظين: (رجل ورجال).

 

  1. الرواية بلفظ الإفراد ( رجل من فارس )

أما إذا أخذنا برواية الإفراد: (لناله رجل من هؤلاء) فالأمر يخف كثيراً:

أ. فقد يكون المقصود به سلمان نفسه. وعندها لا يحتاج الموضوع إلى تعليق أصلاً.

ب. بل الصياغة لا تخلو من إشارة إلى قلة الدين والإيمان في أمة الفرس؛ فأن ينال الدين أو الإيمان – أو حتى العلم – رجل، أمر في غاية القلة. فهو إلى الذم أقرب منه إلى المدح.

وعند التدقيق في لغة النص يظهر اضطراب لا يليق بلغة النبوة؛ فظاهر الحديث أن القصد من القول هو المدح والتميز، لكن النص ضعيف الدلالة على المدح. ثم إنه لا ميزة فيه؛ فما ذكر أمر مشترك بين جميع الشعوب. ويكاد يخلو من أي أثارة للمدح، ومن أراد المدح لا يختار مثل هذا اللفظ الضعيف الدلالة عليه. والنص – بعد ذلك – أقرب إلى الذم منه إلى المدح.

إن هذا يشير عندي إلى أمر خفي، وهو أن المتن من صياغة من لا يجيد لغة العرب. وبحثت فوجدت في السند موالي. مثلاً أبا الغيث كان مولى لابن مطيع العدوي. والموالي – خصوصاً الفرس – فيهم تعصب شديد لعنصرهم. وقد أشار المحدثون إلى مراعاة الأمر النفسي فيما يتعلق بالبدعة، فاشترطوا للمبتدع الثقة أن لا يكون داعية لبدعته، وأن لا يكون ما يرويه مما يخدم بدعته. والأمر في حاجة إلى غوص، لإلحاق النظير بالنظير والفرع بالأصل. فإن هذا التوجيه (احتمال اختراع ما ينصر البدعة من قبل المبتدع وإن كان ثقة) فرع لأصل، والأصل هو أن المرء يمكن أن يميل مع هواه وإن كان ثقة؛ فيجب الابتعاد عما يرويه من أحاديث تدخل في نطاق الهوى: بدعة أم غيرها.

لقد أصل المحدثون هذا الأصل، لكن بطريقة التمثيل بما يشير إليه، وهو البدعة. لكن الهوى له أمثلة كثيرة، على رأسها الميل للقوم والعشيرة والحزب والطائفة والجماعة. ومن أعظم الخلق هوى وميلاً لعنصرهم وقوميتهم هم الفرس؛ فينبغي أن نراعي هذه الملاحظة، وهي تجنب ما يرويه المولى – وإن كان ثقة – مما يؤيد عنصريته. ويبدو أن جمهور قدماء المحدثين لم ينتبهوا إلى هذا الأمر. وأرى أن السبب عدم نضوج علم النفس والاجتماع في أزمنة التأسيس الحديثي. وجاء المتأخرون فنسجوا على منوال المتقدمين، دون الانتباه إلى هذا الأمر الذي يجري على سنن أصول الأقدمين، ولا يخرج عنها.

وهنا يأتي مجال البحث في السند.

 

حديث ( لو كان الإيمان عند الثريا…) ليس على شرط البخاري ومسلم

من الأمور التي قررها العلماء وجوب التفريق بين ما يرويه الشيخان في (الصحيحين) احتجاجاً، فهذا هو الذي على شرطهما، وما يرويانه للشواهد والمتابعات لسبب يقتضيه خارج عن أصل الصحيح الذي على شرطهما. وقد يكون بعض أحاديث الشواهد والمتابعات رويت بأسانيد ضعيفة؛ فلا يصح نسبة قسمي أحاديث الصنف الثاني: الصحيح منه والضعيف للصحيحين باعتبار أنها صحيحة كالصنف الأول. وهي صنعة لا يجيدها إلا أهل الشأن. وقد تتحصل بالبحث لمن يحسن البحث في أحاديث بعينها؛ فالعلم قابل للتجزئة، وليس هو كتلة واحدة. المشكلة أن غير المختص وغير محسن البحث لا يعرف هذه الحقيقة؛ فيذهب إلى هذين المصدرين العظيمين فيستقي منهما دون تفريق. وقد يتهمك إن اعترضت عليه رغم أنك تتكلم بعلم، وبما يقوله المحدثون أنفسهم، لكن الثقافة السائدة تغلب عليه. بل تغلب على طلبة علم وشيوخ دين فتحيلهم مما هم عليه من مستوى علمي إلى عوام!

وإنما تشدد المحدثون – ومنهم الشيخان – في رواية أحاديث العقائد والأحكام، وما عداها كأحاديث الفضائل والرقائق والمناقب ونحوها فقد تساهلوا في شروط روايتها. بل أحاديث الأحكام نفسها لهم منهج في التعامل مع الحديث منها الذي يكون أصلاً في بابه، والحديث الذي يعتبر شاهداً من شواهد الباب([1]).

 

الحديث ليس على شرط الشيخين وإن روي فيهما

وحديث (لو كان الإيمان عند الثريا…) ليس من صنف الأحاديث التي يتشدد المحدثون في شروط روايتها. إذ هو من أحاديث المناقب وليس من أحاديث العقائد أو الأحكام والحلال والحرام. هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية فإن البحث في أسانيد الحديث يدل على أنه مما لم يشدد الشيخان فيه فعلاً.

  1. أول ما يلاحظ على السند أن البخاري([2]) رواه عن عبد العزيز ابن أبي حازم سلمة بن دينار. بينما الراجح عند النقاد – مثل ابن حجر – أنه عبد العزيز الدراوردي. ومنهم من قال: بل هو الدراوردي عند البخاري. قال ابن حجر (فتح الباري 8/642- 643): “يؤيده أن البخاري لم يخرج للدراوردي إلا متابعة أو مقروناً وهو هنا كذلك فإنه صدره برواية سليمان بن بلال ثم تلاه برواية عبد العزيز”. وقال: “أخرجه مسلم عن قتيبة عن الدراوردي. وجزم الكلاباذي بأنه ابن أبي حازم، والأول أولى؛ فإن الحديث مشهور عن الدراوردي. ولم أر في شيء من المسانيد من حديث أبي حازم والدراوردي قد أخرج له البخاري في المتابعات غير هذا”. وقصدي من ذلك أن الحديث جاء في المتابعات، لا في الاحتجاج؛ والبخاري لم يخرج للدراوردي إلا مقروناً بغيره؛ فليس هو على شرط البخاري.
  2. ومما يدل على أن الحديث ليس على شرط الشيخين أن الدراوردي، وإن كان ثقة، يخطئ إذا حدث من حفظه أو حدث من كتب الناس. قاله أحمد بن حنبل، وقال: “وربما قلب حديث عبد الله بن عمر يرويها عن عبيد الله بن عمرو”. وقال أبو زرعة: سيء الحفظ ربما حدث من حفظه الشيء فيخطيء. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال في موضع آخر: ليس به بأس وحديثه عن عبيد الله بن عمر منكر. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث يغلط. قال المزي: روى له البخاري مقروناً بغيره. وقال ابن حبان في الثقات: وكان يخطئ. وقال الساجي: كان من أهل الصدق والأمانة إلا أنه كثير الوهم”.

وكان الدراوردي شديد اللحن يضاً؛ ربما لأنه فارسي من خراسان. قال الزبير: حدثني عياش بن المغيرة بن عبد الرحمن جاء الدراوردي إلى أبي يعرض عليه الحديث فجعل يلحن لحناً منكراً، فقال له أبي: ويحك إنك كنت إلى لسانك أحوج منك إلى هذا. (انظر تهذيب التهذيب لابن حجر:6/353 – 355). وذكره العقيلي – وهو تلميذ البخاري – في الضعفاء (الضعفاء الكبير: 3/20).

  1. ومن دلائل عدم اتصاف الحديث بشرط (الصحيحين) أن ثور بن زيد الديلي قدري خارجي، ولم يكن يدعو إلى شيء من ذلك (التمهيد لابن عبد البر: 5/378).

هذا ولم أستقص البحث عن جميع الرواة؛ فهذا في حاجة إلى جهد ووقت لا أملكه، وفيما ذكرته يغني عما تركته. فالحديث لا يصح نسبته إلى الشيخين على وجه الإطلاق.

 

  1. الحديث من رواية موالي الفرس

يرفض المحدثون قبول رواية المبتدع الثقة إذا كانت في تأييد بدعته؛ لكون المرء ربما مال إلى هواه. ومن عرف طبائع البشر، وميلهم إلى عصبيتهم وقومهم، لا سيما الفرس فإنهم أكثر الناس عصبية لقومهم.. أدرك ضرورة الحذر مما يرويه موالي الفرس في مدح قومهم والتعصب لهم. وليس من شرط كون المرء ثقة أن يكون سالماً من الهوى. انظر إلى محمد أنور شاه بن معظم شاه الكشميري (ت 1353هـ) في كتابه (فيض الباري على صحيح البخاري، 5/421) كيف قال: “ومَحْمل هذه الأحاديث هم حَمَلةُ الشريعة في العجم. ولا ريب أن هؤلاء كَثُروا في العجم، حتى إن أصحاب (الصِّحاح) كلهم من العجم”! فأطلق ولم يقيد!

والحديث – إضافة إلى كونه في المناقب، وليس في العقائد أو الأحكام، وليس هو على شرط الشيخين – من رواية الموالي. ومما يزيد الريبة تعدد رواته منهم حتى كأنه مسلسل بالموالي!

  1. فعبد العزيز ابن أبي حازم مولى فارسي وأمه رومية (سير أعلام النبلاء للذهبي: 6/257).
  2. وأما عبد العزيز الدراوردي فمولى أصله من قرية بفارس يقال لها دراورد (تهذيب التهذيب للذهبي: 6/353).
  3. وسالم أبو الغيث المدني، مولى عبد الله بن مطيع العدوي (تهذيب الكمال للمزي: 10/180).
  4. وثور بن زيد مولى لبني الديل (الطبقات الكبرى لابن سعد، ص326) .
  5. ومحمد بن رافع بن أبي زيد، واسمه سابور القشيري، مولاهم (تهذيب الكمال: 25/192).
  6. وعبد الرزاق بن همام الصنعاني مولى شيعي (سير أعلام النبلاء، للذهبي، 8/222).
  7. ومعمر بن راشد مولى (سير أعلام: 6/471).
  8. وشهر بن حوشب مولى الصحابية أسماء بنت يزيد الأنصارية. واختلف في توثيقه (سير أعلام النبلاء، 4/372 وما بعدها). وعلق شعيب الأرنؤوط على حديث أحمد بقوله: إسناده ضعيف لضعف شهر بن حوشب (مسند الإمام أحمد، 6/92، النسخة الموصلية).
  9. وعوف، الذي حدث عن شهر (إن كان ابن أبي جميلة بن سهل الأعرابي): مولى فارسي قدري شيعي رافضي. (سير أعلام: 6/384) وأضاف العقيلي عن بندار: والله لقد كان عوف قدرياً رافضياً شيطاناً (الضعفاء الكبير: 3/429).
  10. ومما يلفت النظر إلى حرص الموالي على هذه الرواية أن ابن الأثير رواها عن سفينة وهو مولى مسلسلة بثلاثة من أحفاده والرابع ابن له، وهو خامسهم: (ابن عبيد بْن الأسود بْن سويد بْن زياد بْن سفينة)([3]).

هذا ولم أستقص البحث عن جميع الرواة. علماً أنني لا أطعن في صدق المولى بقدر ما أقصد أن الرواية مما يوافق ميول الراوي؛ فينبغي الاحتراز والتوثق مما يرويه من هذا الصنف. وما أكثر الأحاديث الضعيفة في فضل العرب والعروبة التي رواها الرواة مع صدقهم انسياقاً وراء الميل والعاطفة!

 

الرواة يتصرفون بالرواية شرقاً وغرباً .. ما السر ؟ ومن وراءه ؟

وقد تصرف الرواة بالنص شرقاً وغرباً، متناً وسنداً. ما يشير إلى اليد الشعوبية الخفية التي تختبئ وراء الرواية. وإليكم مثالين على التصرف والتحريف من عشرات لنص لم يثبت أصله:

روى الإمام أحمد في (المسند): حدثنا إسحق بن يوسف، وهو الأزرق، أخبرنا عوف عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة، قال: سمعته يقول: قال رسول الله e: (لو كان العلم بالثريا لتناوله أناس من أبناء فارس).

وشهر بن حوشب مولى الصحابية أسماء بنت يزيد الأنصارية. واختلف في توثيقه (سير أعلام النبلاء، 4/372 وما بعدها). وضعف شعيب الأرنؤوط الحديث من أجل شهر بقوله: إسناده ضعيف لضعف شهر بن حوشب (مسند الإمام أحمد، 6/92، النسخة الموصلية)([4]). إنما هو (الإيمان والدين). وليس من شرطهما البروز في العلم.

وروى الترمذي: حدثنا عبد بن حميد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا شيخ من أهل المدينة عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة تلا رسول الله e يوماً هذه الآية: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ). قالوا: ومن يُستبدَل بنا؟ قال: فضرب رسول الله على منكب سلمان ثم قال: (هذا وقومه، هذا وقومه). فلم يكتف (الشيخ) بالنص المتقدم لقصوره في شفاء غلة العنصرية حتى جعله يصرح بأن البديل للعرب هم الفرس!

والرواية – كسابقتها – ضعيفة سنداً ومتناً. أما المتن فتفوح منه رائحة الشعوبية، ولا ينكرها إلا من فقد حاسة الشم. وأما السند فقد ضعفه الترمذي نفسه فقال: هذا حديث غريب، في إسناده مقال. والغريب في اصطلاح الترمذي هو الضعيف. وسبب ضعفها من جهة إسنادها أن فيها راوياً مجهولاً (شيخ من أهل المدينة). فالحديث منقطع بين عبد الرزاق والعلاء بن عبد الرحمن. هذا ولم يسلم بعض الرواة الآخرين من مقال؛ فالحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج. والواقع التاريخي يشهد بعكسه تماماً! لا كما يزعم التجار، وصدقهم الأغرار.

 

الشعوبيون يستغلون الحديث ويضيفون إليه

نقول هذا الكلام لأننا لم نرتض لأنفسنا أن نجلس وراء المكاتب، أو خلف الجدران الصماء، لا ندري بما يدور وراءها. نتطلع إلى الناس من فوق بروجنا العاجية؛ فنفسر النصوص بما يمكن أن تحتمله من معانٍ، دون النظر إلى الواقع، أو مصداقها منه. ولا ندرك كيف يتصيد الخصوم كلماتنا وينفذوا من ثغراتها؛ ليستثمروها في صالح معتقداتهم، وتحقيق أهدافهم، وخدمة أغراضهم. هذا واحد من دجاجلة الشيعة هو علي الكوراني. انظر إليه كيف يتعامل مع هذه النصوص! فيقول:

الآيات والأحاديث في مدح الإيرانيين: وردت الأحاديث حول الإيرانيين وحول الآيات المفسرة بهم بتسعة عناوين: ” قوم سلمان. أهل المشرق. أهل خراسان. أصحاب الرايات السود. الفرس. بني الحمراء أو الحمراء. أهل قم. أهل الطالقان ” وسترى أن المقصود فيها غالبا واحد. وقد تكون أحاديث أخر عبرت عنهم بعناوين أخرى أيضا. في تفسير قوله تعالى: “وان تتولوا يستبدل قوما غيركم” قال عز وجل: “ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله، فمنكم من يبخل، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه، والله الغني وأنتم الفقراء. وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم ” (محمد:38) . قال صاحب الكشاف (ج 4 ص 331) ” وسئل رسول الله صلى الله عليه وآله عن القوم وكان سلمان إلى جنبه فضرب على فخذه وقال: “هذا وقومه. والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس”.

وقال صاحب مجمع البيان: “روي عن الإمام الباقر عليه السلام قال: “إن تتولوا يا معشر العرب، يستبدل قوما غيركم، يعني الموالي”… وفي الحديث الشريف معنيان متفق عليهما، وهما: أن الفرس هم الخط الثاني عند الله تعالى لحمل الإسلام بعد العرب، والسبب في ذلك أنهم يصلون إلى الإيمان مهما كان بعيدا عنهم، وكان طريقه صعبا. كما أن فيه ثلاثة أمور محل بحث: أولها: هل أن هذا التهديد للعرب باستبدال الفرس بهم خاص بوقت نزول الآية في عصر النبي صلى الله عليه وآله أو مستمر في كل جيل، بحيث يكون معناه: إن توليتم في أي جيل يستبدل بكم الفرس؟ والظاهر أنه مستمر… وثانيها: أن الحديث الشريف يخبر أن رجالا من فارس ينالون الإيمان أو العلم، ولا يخبر أنهم كلهم ينالونه. فهو مدح لأفراد نابغين منهم وليس لهم جميعا. ولكن الظاهر من الآية والحديث أنهما مدح للفرس بشكل عام لأنه يوجد فيهم رجال ينالون الإيمان والعلم. خاصة إذا لاحظنا أن الحديث عن قوم يخلفون العرب في حمل الإسلام. فالمدح للقوم بسبب أنهم أرضية للنابغين، وأهل لاطاعتهم والاقتداء بهم. وثالثها : هل وقع إعراض العرب عن الإسلام واستبدال الفرس بهم ، أم لا ؟ والجواب: أنه لا إشكال عند أحد من أهل العلم أن العرب وغيرهم من المسلمين في عصرنا قد أعرضوا وتولوا عن الإسلام. وبذلك يكون وقع فعل الشرط ” إن تتولوا ” ويبقى جوابه وهو الوعد الإلهي باستبدال الفرس بهم. كما لا إشكال عند المنصفين أن هذا الوعد الإلهي بدأ يتحق…

في تفسير قوله تعالى: “بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد” في (البحار: ج60 ص216) عن الإمام الصادق عليه السلام ، ” أنه قرأ هذه الآية. فقلنا جعلنا فداك من هؤلاء ؟ فقال ثلاثا : هم والله أهل قم ، هم والله أهل قم ، هم والله أهل قم “…

أما الأحاديث الواردة من طرق الفريقين في مدح الإيرانيين ومستقبل دورهم في حمل الإسلام، فهي كثيرة… وهو يدل على أن الوعد الإلهي سيتحقق في العرب فيتولوا عن الدين ، ويستبدل الله تعالى بهم الفرس، ولا يكونوا أمثالهم. ويدل على أن الفتح الإسلامي في هذه المرة سيكون ابتداء من إيران في طريق القدس والتمهيد للمهدي عليه السلام)([5]).

 

29/2/2015

___________________________________________________________________________________________

[1]– قال الذهبي (الموقظة، ص80): فما في “الكتابين” بحمد الله رجل احتج به البخاري أو مسلم في الأصول ورواياته ضعيفة، بل حسنة أو صحيحة. ومن خرج له البخاري أو مسلم في الشواهد والمتابعات، ففيهم من في حفظه شيء، وفي توثيقه تردد. وقال ابن الصلاح وهو يستعرض أسباب وجود رواة ضعفاء في صحيح مسلم (صيانة صحيح مسلم، ص96): الثاني أن يكون ذلك واقعا في الشواهد والمتابعات لا في الأصول وذلك بأن يذكر الحديث أولا بإسناد نظيف رجاله ثقات ويجعله أصلا ثم يتبع ذلك بإسناد آخر أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة أو لزيادة فيه.

وأنصح بالرجوع في التعرف على كلام العلماء في ذلك وتواطئهم عليه إلى كتاب (الكفاية) للخطيب البغدادي، باب (التشدد في أحاديث الأحكام, والتجوز في فضائل الأعمال قد ورد عن غير واحد من السلف أنه لا يجوز حمل الأحاديث المتعلقة بالتحليل والتحريم إلا عمن كان بريئاً من التهمة, بعيداً من الظنة. وأما أحاديث الترغيب والمواعظ ونحو ذلك فإنه يجوز كتبها عن سائر المشايخ)، ص133 وما بعدها. منه قول الإمام أحمد بن حنبل: «إذا روينا عن رسول الله e في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشددنا في الأسانيد , وإذا روينا عن النبي e في فضائل الأعمال وما لا يضع حكماً ولا يرفعه تساهلنا في الأسانيد». وقول سفيان الثوري: «لا تأخذوا هذا العلم في الحلال والحرام إلا من الرؤساء المشهورين بالعلم, الذين يعرفون الزيادة والنقصان. ولا بأس بما سوى ذلك من المشايخ».

[2]–  روى الإمام البخاري الحديث بسندين: الأول: حدثني عبد العزيز بن عبد الله، قال: حدثني سليمان بن بلال عن ثور عن أبي الغيث عن أبي هريرة y. والثاني: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا عبد العزيز، أخبرني ثور، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة.

وروى مسلم الحديث بسندين: الأول يلتقي مع سند البخاري: عن عبد العزيز يعني ابن محمد عن ثور عن أبي الغيث عن أبي هريرة. والثاني: حدثني محمد بن رافع (حدثنا)، وعبد بن حميد (أخبرنا) عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن جعفر الجزري، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة.

ورواه أحمد في (المسند) بسندين: أحدهما: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن جعفر الجزري عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة (وهو إسناد مسلم الثاني نفسه). والآخر: حدثنا إسحق بن يوسف، وهو الأزرق، أخبرنا عوف عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة.

[3]– أسد الغابة في معرفة الصحابة، 2/505. أبو الحسن علي بن أبي الكرم الشيباني الجزري، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1415هـ – 1994م.

[4]–  وعوف، الذي حدث عن شهر (إن كان ابن أبي جميلة بن سهل الأعرابي): مولى فارسي قدري شيعي رافضي. (سير أعلام: 6/384) وأضاف العقيلي عن بندار: والله لقد كان عوف قدرياً رافضياً شيطاناً (الضعفاء الكبير: 3/429). وقد حققت الحديث بأوسع من هذا في بحوث لاحقة تجدها في آخر الجزء أو المجلد العاشر.

1- عصر الظهور ، ص195-201، علي الكوراني.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى