الانحيازية في كتابة التاريخ (4) المنهج التبريري للدكتور علي الصلابي
د. طه حامد الدليمي
مما تحدث به الدكتور الفاضل علي الصلابي عن عدل السلطان محمد الفاتح غفر الله له (ص152) أنه كان يعاقب القاضي المرتشي بالقتل. وأن أحد غلمانه ضرب القاضي فأمر بقتله. ومن المعلوم أن حد القتل أمر عظيم لا يطبق على المسلم إلا لأمر عظيم. روى الشيخان عن ابن مسعود قال: قال رسول الله : (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة). حتى إن هذا الحد اختلف في تعلقه بالثيب الزاني، ومما احتج به المخالفون ما رواه البخاري فقال: حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا عبد الواحد: حدثنا الشيباني: (سألت عبد الله بن أبي أوفى عن الرجم فقال: رجم النبي . فقلت: أقبل النور أم بعده؟ قال: لا أدري). وما ذلك إلا لفظاعة القتل! ولا نعرف أن القتل من حدود الرشوة أو الاعتداء على آخر بالضرب؛ فكيف يكون إزهاق نفس الضارب من العدل؟! فنحن نسأل: على أي شريعة كانت تجري مثل هذه الأحكام؟
ويمتدح الصلابي (ص31) الدولة العثمانية على (نقل قبائل إسلامية تابعة لها إلى قرى مسيحية ونقلت أعداداً من النصارى إلى تجمعات إسلامية) ويبرر ذلك بأنه (ساعد على انتشار الإسلام تدريجياً). لكنه لم يبين لنا هل يجوز ذلك شرعاً دون موافقة الطرفين؟
وسار على خطته هذه في تبرير الأخطاء الكبيرة أو تجاهلها. فبعد مصرع بايزيد على يد تيمورلنك وتمزق دولته، نشبت حروب طاحنة بين أولاده الثلاثة، ثم انضم إلى حلبة الصراع أخ لهم رابع كان أسيراً لدى تيمورلنك، واستمرت الحروب بينهم عشر سنين. وهنا يتدخل الصلابي على عادته في تبرير كل ما يحدث، كأن التاريخ هو الإسلام نفسه لا يصح ديناً نقد أي جزئية فيه. فيعتبر (ص65) تلك الفتن والمذابح الأهلية (مرحلة اختبار وابتلاء سبقت التمكين الفعلي المتمثل في فتح القسطنطينية). وأن ذلك جرى وفق سنة الله في تمكين الأمة الإسلامية من أجل اختبارها وتمحيص أبنائها ثم لتمكينهم في الأرض! ويسهب في ذلك مستغيثاً بالآيات والمفسرين لتأييد وجهة نظره في حرب أهلية هي ليست أكثر من فتنة نهى الله عنها في كتابه الكريم وعلى لسان نبيه . فما علاقتها بتمكين المؤمنين؟
ويقول (ص66): (صمد العثمانيون لمحنة أنقرة بالرغم مما عانوه من محنة داخلية، إلى أن انفرد محمد الأول بالحكم عام 1413م، وأمكنه لمّ شتات الأراضي التي سبق للدولة أن فقدتها. إن إفاقة الدولة من كارثة أنقرة يرجع إلى منهجها الرباني الذي سارت عليه، حيث جعل من العثمانيين أمة متفوقة في جانبها العقدي والديني والسلوكي والأخلاقي والجهادي). وملخص هذا الذي يتحدث عنه هو أن أحد الإخوة المتصارعين – وهو محمد الأول الملقب بالجلبي – قضى على إخوته الواحد بعد الآخر. فما دخل (المنهج الرباني) بذلك؟ هل كان محمد الجلبي دون إخوته على ذلك المنهج؟ أم هي عادة الناس حين يختصون المنتصر دائماً بالثناء والمدح؟ ولنفترض أن أحد الإخوة المتصارعين الذين كانت نهايتهم الإبادة تمكن هو من قتل إخوته الآخرين – ومنهم محمد الجلبي – وفاز بالسلطة: هل يكون هو الفائز دونهم بالمدح وعظيم الثناء؟ وعند ذاك يكون اتباعه لـ(المنهج الرباني) هو السبب في نصره، بينما يغيب إخوانه المارقون عن مسرح الحدث.
ويذكر لنا د. الصلابي (ص35) حادثة غريبة يقرر فيها السلطان سليم خان في حالة غضب قتل مئة وخمسين (150) رجلاً من موظفيه. والقصة طويلة يتدخل فيها المولى علاء الدين الجمالي ليقول له: هؤلاء لا يجوز قتلهم شرعاً (فغضب السلطان وكان صاحب حدة، وقال له: لا تتعرض لأمر السلطان، وليس ذلك من وظيفتك). وانتهى الأمر بالعفو عنهم. والسؤال: ماذا سيحدث لهؤلاء الأبرياء فيما لو لم يسمع بهم ذلك الرجل ويتوسط لهم عند السلطان سليم؟ وهل يجوز للسلطان أن يحكم بقتل هذا العدد الكبير دون محاكمة؟ إن الصورة الخيالية الحالمة عن كائن من كان لا يمكن نسجها بمثل هذه الخيوط.
دولة شوروية
اعتبر الكاتب أن الدولة العثمانية قامت على الشورى معتمداً في ذلك على نص في وصية الأمير عثمان لابنه أورخان (ص23): (إذا واجهتك في الحكم معضلة فاتخذ من مشورة العلماء موئلاً). ويؤكد في (ص25) هذا الأمر بقوله: (ساهمت الشورى في بناء الدولة العثمانية وتماسك رعاياها وعززت السلطان السياسي والجهادي والدعوي للدولة). وأسهب في هذا طويلاً، وعرض آراء العلماء في كون الشورى ملزمة أم معلمة؟ ورجح هو الرأي الأول. وله ذلك، وإن كنت أرى فيه أثراً من آثار ردة الفعل تجاه استبداد الحكام. لكنني لم أهتد إلى ما اهتدى إليه من خلال النص السابق من أن (الأمير عثمان يسبق كثيراً من العلماء والمفكرين المعاصرين في ذهابه إلى أن الشورى ملزمة ويأمر ابنه بالنزول على رأي العلماء لكونهم لا يأمرون إلا بخير)؟ فليس في الوصية أكثر مما في نص الآية الكريمة (وشاورهم في الأمر) والآية الأخرى (وأمرهم شورى بينهم)، وكلتاهما غير صريحتين في الموضوع؛ وإلا لما اختلف العلماء فريقين في تفسيرهما. ثم إنه ليس في الأمر من سبق؛ فالاختلاف قديم سابق على وجود الأمير، ومن أخذ بغير ما يرى الكاتب من المعاصرين فليس في رأيهم تأخر، فالخلافيات لا تقبل تأخراً ولا تقدماً.
ثمت نقطة جوهرية هنا، هي أن الحكم العثماني حكم وراثي، وكثير من الكتاب – والدكتوى الصلابي منهم – يعتبرون الحكم الوراثي في شق والحكم الشوروي في شق آخر، ونحن وإن كنا لا نرى ذلك، لكن مطلوب من الكاتب أن يبين لنا كيف يوفق بين هذه الرؤية الشقِّية وبين اعتباره الحكم العثماني حكماً شوروياً مع أنه حكم قام على قاعدة الوراثة في اختيار الحاكم؟ ففي كتابه (خلافة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير ) (ص34) قال: (إن أهل السنة والجماعة يعتبرون بيعة يزيد صحيحة ولكنهم عابوا عليها أمرين: قالوا إن هذه بدعة جديدة وهي أنه جعل الخلافة في ولده، فكأنها صارت وراثة بعد أن كانت شورى وتنصيصاً على غير القريب، فكيف بقريب وابن مباشر؟! فمن هذا المنطلق رُفض المبدأ بغض النظر عن الشخص، فهم رفضوا مبدأ أن يكون الأمر وراثة). على أن إطلاق القول بأن هذا هو قول أهل السنة والجماعة مجازفة، ودعوى لا تثبت عند التحقيق.
وصحح (ص36) موقف الخارجين على يزيد مستنداً على موضوع الشورى قائلاً: (إن الحسين بن علي وابن الزبير وأهل الحرَّة كان خروجهم من أجل الشورى لأسباب مشروعة منها:
1- دفاعاً عن حقهم الذي جعله الله لهم (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ).
2- أن هذا الاغتصاب منكر وظلم تجب إزالته.
3- تمسكًا بالسنة وهدى الخلفاء الراشدين في باب الخلافة).
وهو كلام عاطفي ينظر إلى ظاهر الحدث دون التوغل في حيثياته وأعماقه.