مقالات

درس سياسي عميق من سيرة سيدنا علي

د. طه حامد الدليمي

سيدنا علي .. هل يشك مسلم في سابقته وفضله، ونزاهته وعدله.. وحرصه على العمل بشرع الله؟ حاشى لله! لكن فيما حصل بينه وبين قتلة سيدنا عثمان من تداعيات شيء يدعو إلى العجب، ويجعل السياسي الرباني يتحوط كثيراً قبل الإقدام على أية خطوة سياسية ما لم يكن في حرز من تداعياتها وسلامة من مآلاتها.

ابتدأت تلك التداعيات من نقطة صغيرة هي الاستجابة لضغط قتلة عثمان في قبول البيعة على غير رضى من معظم رؤوس الصحابة. ثم تدهورت الأوضاع السياسية والأمنية إلى حد الانقسام والاقتتال بين المختلفين!

وفيما جرى درس عميق لكل رباني يعمل في ميدان السياسة. هذا الدرس العميق لا ينبغي أن يظل مغيباً بسبب العقلية التقليدية التقديسية لأهل السنة، وهي قريبة من العقلية العصموية الشيعية. التقديس والتعصيم داء يمنع الإنصاف ويحجب الحقيقة؛ لأنه يمنح المقدس والمعصوم بطاقة البراءة له وقرار التجريم لخصمه دون البحث في حيثيات القضية. وحب السابقين واحترامهم مع الاستغفار لهم، وليس تقديسهم أو تعصيمهم، هو الواجب في حقنا تجاههم. وليس مما يناقض هذا الواجب ذكر خطأ أو خلل ما، في ذكره درس عميق للأمة كدرسنا بالشروط الربانية المذكورة: الحب والاحترام والاستغفار.

إن خللاً ما لا بد أن يكون قد وقع كان سبباً لذلك التدهور المتتابع. وإلا لا يمكن أن يكون الصواب المحَكَّم سبيلاً لواقع قد تشرذم. فأين الخلل؟

إن الخلل بدأ فكان على مرحلتين أو خطوتين:

الأولى: لين عثمان مع رؤوس الفتنة فتفاقم شرهم حتى قتلوه. وبذلك انتقلت الشوكة إلى أيديهم. لكنهم وقعوا في ورطة. إن ما فعلوه جريمة في غاية البشاعة، وجيوش الأقاليم التي بعث إليها سيدنا عثمان سراً لنجدته في طريقها إلى المدينة، وليس سوى القصاص منهم إن هي وصلت، سواء بقوا في المدينة أو تفرقوا في البلدان. واستقر رأيهم على ضرورة إقناع واحد من رؤوس الصحابة أن يتقلد الحكم وذلك بأمرهم وتحت قوة سيوفهم؛ فهم أصحاب القوة في ذلك الظرف بلا منازع. ورفض الجميع العرض بتولي الحكم: علي، الزبير، طلحة، سعد، ابن عمر، ابن مسلمة. ثم فوجئ الجميع بعد ثلاث بسيدنا علي في المسجد تؤخذ له البيعة تحت أسنة قتلة سيدنا عثمان! ورجعت الجيوش بعد أن سمعت بمقتل عثمان، الذي جره إليه لينه مع من لا يستحقون. وقد أُثر عن الخليفة عبد الملك بن مروان رحمه الله قوله: (وما خالف عثمانُ عمرَ في شيء إلا باللين، فإن عثمان لان لهم حتى رُكب، ولو غلظ عليهم جانبه كما غلظ عليهم ابن الخطاب ما نالوا منه ما نالوا).

من هنا بدأت المرحلة الثانية، وهي استجابة علي لهم فتولى الأمر بضغط من قتلة الخليفة ومن جمهور أهل المدينة. وقد تضمنت هذه الاستجابة لزوماً تأجيل إقامة الحد على القتلة. وقد كان سيدنا علي يرى أنه يمكنه التأجيل حتى تصل الدولة إلى حالة من الاستقرار يتمكن فيها من القصاص من القتلة.

من هذه النقطة الحرجة (تأجيل إقامة الحد) بدأت سلسلة التداعيات، حتى وصلت إلى اقتتال وقتل طال خيرة الصحابة، ومنهم طلحة والزبير رضي الله عنهما. وذلك بدل أن يأخذ مجراه الطبيعي فيطال من هو أحق به وهم قتلة عثمان . فترْكُ الحد في قتل من يستحقه قاد إلى قتل من لا يستحقه! وتأمير من حقه القتل كرأس الفتنة مالك الأشتر قاد إلى قتل من حقه التأمير كالزبير أو الأمر بعزله كمعاوية ؛ وليس معاوية شراً – وحاشاه – من الأشتر، ولا الأشتر خيراً من معاوية؛ وأنى ذلك وهو رأس وقائد الفتنة وقاتل ذي النورين عثمان بن عفان !

وهذا من أعجب وقائع التاريخ، التي لم أجد من وقف عندها ليأخذ العبرة منها!

عجيبة تحاشى الناس ذكرها

وأرى أن لذلك سببين: الأول هيبة سيدنا علي في النفوس، الذي تطور عند السنة إلى نوع من التشيع ودرجة من درجاته، بحيث لو أن أحداً قال عنه: أخطأ في كذا أو كذا، سارع البعض فاتهمه بالنصب؛ فتحاشى جمهور أهل العلم خشيةَ التهمة ذكر هذا الخطأ وإن كان بالشروط التي تدور داخل دائرة الشرع؛ فسيدنا علي ليس بمعصوم. وهذا هو السبب الثاني. وتطور الأمر فصارت المسارعة إنما إلى تخطيء سيدنا معاوية وكأن المسارع في ذلك يريد أن يقدم دليلاً على البعد عن تهمة النصب. ثم زاد فصار مسارعة في ترضية الشيعة عسى أن لا يتهموه ببغض (أهل البيت). ثم زاد الانحدار فصار جمهور السنة يسارعون باتهام من كان قصده الحقيقة والإنصاف وتحصيل العبرة بتلك التهمة القبيحة. هذا مع تبرئة بعضهم الشيعة من بغض الصحابة، فإذا أحرج قال: إن الشيعة صنفان: يبرئ أحدهما، ويلقي بالتهمة على صنف مجهول العين منهم. أو يسكت عن تجريم الشيعة ببغض الصحابة في الوقت الذي يسارع فيه إلى تهمة من يتكلم بعدل وإنصاف فيقوده ذلك إلى تخطئة علي في أمر، والزبير وعائشة ومعاوية في أمر، فلا يرضى منه إلا بتحميل معاوية كل الأخطاء والتبعات، ولا يتضايق من تخطئة الزبير أو طلحة كما يتضايق من تخطئة علي! وهذا نوع من التشيع الخفيف يمهد ويقود إلى التشيع الغليظ.

قد يقول قائل: وماذا كان يمكن لسيدنا علي أن يفعل، وقد جاءه الناس يعرضون عليه البيعة حفظاً للجماعة؟ ونقول: وهل تحققت الجماعة؟ ثم انظر إلى رفض كبار الصحابة، ومنهم علي في البدء، قبول البيعة. وكانت الجيوش في الطريق إلى المدينة قد قدمت من الأمصار. وهذا ما كان يخشاه القتلة؛ لذلك كانوا حريصين على أن يتولى واحد من كبار الصحابة البيعة في ظلهم حتى يحتموا به في الظاهر ويكون محتمياً بهم – وهو لا يدري -في الباطن؛ فالشوكة معهم، وبها يكون الخليفة. فإذا وصلت الجيوش أطبقت على القتلة ورؤوس الفتنة فقبضت عليهم، واقتصت منهم فأقامت الحد. ثم اجتمع الأصحاب فتشاوروا وولوا أحدهم، وفي الغالب لن يكون غير سيدنا علي. وانتهت الفتنة ووئدت في مهدها، والتأم شمل الجماعة. لكن سيدنا علياً رأى غير هذا، فأدى رأيه إلى تلك التداعيات التي لم تتوقف إلا ببيعة سيدنا الحسن لمعاوية واجتماع الأمة عليه، لكن بعد خمس سنين من التقاتل والانقسام الداخلي.

يقول د. أكرم ضياء العمري([1]): “تولى علي الخلافة إثر مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنهما في ظروف خطيرة حيث سيطر الناقمون على عثمان على المدينة، وأفلت الأمر من يد كبار الصحابة، ولم تعد ثمة سلطة عليا تحكم الدولة الاسلامية، وقد سعى الناقمون إلى تولية عبد الله بن عمر، وهددوه بالقتل إن لم يرض، ولكن لم يجدوا منه إلا صدوداً“([2]). وسعى المعارضون إلى بيعة واحد من كبار الصحابة لملأ الفراغ في السلطة، فعرضوها على طلحة بن عبيد الله([3])، وعبد الله بن عمر حتى هددوه بالقتل، لكن أحداً لم يكن ليقبل منهم السلطة في ظروف الفتنة، لأنهم لا يمثلون الأمة، بل يمثلها كبار الصحابة في المدينة، وهم الذين يقبل الناس في أنحاء الدولة اختيارهم، وقد أدرك المعارضون ذلك([4]) بعد فشل محاولاتهم. وقد بادر الناس إلى علي ليبايعوه، فاظهر رغبته عن الخلافة في تلك الظروف: “والله إني لأستحي أن أبايع قوماً قتلوا رجلاً قال فيه رسول الله : (ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة). وإني لأستحي من الله أن أبايع وعثمان قتيل على الأرض لم يُدفن بعد” فانصرفوا. فلما دُفن عثمان أتوه مرة أخرى وسألوه البيعة وقالوا: لابد للناس من خليفة، ولا نعلم أحداً أحق بها منك… فقال: اللهم إني مشفق مما أقدم عليه. وقال لهم: فإذا أبيتم عليّ، فإن بيعتي لا تكون سراً، ولكن أخرج إلى المسجد فمن شاء أن يبايعني بايعني. فخرج إلى المسجد وبايعه الناس([5]) عن رضاً واختيار، سوى طلحة والزبير فإنهما بايعاه مكرهين ولم يكونا راضيين عن الطريقة التي تمت بها البيعة حيث لم يتم التداول بين أهل الحل والعقد بشأنها، ولم يعقد مجلس للشورى([6]). “ولأن الثوار أتوا بهما بأسلوب جاف عنيف. ولا شك أن هذه الطريقة فرضتها طبيعة الأحداث لسيطرة هؤلاء الأعراب الجلف على المدينة”([7]). “واعتزل بعض الصحابة فلم يبايعوا علياً ومنهم محمد بن مسلمة وأهبان بن صيفي وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر، فقد كانوا يرون الناس في فرقة واختلاف وفتنة، فكانوا ينتظرون أن يستقر الأمر فيبايعوا. كما أن معاوية بن أبي سفيان وأهل الشام وكثيراً من أهل البصرة ومصر واليمن لم يبايعوه. ويرى ابن حزم أن عددَ من امتنع عن بيعته مثل عدد من بايعه، وقدّر عددهم بمئة ألف مسلم([8]).

فمن منا له عقل علي وحكمته ودينه وتقواه؟

ليستذكر السياسي هذا جيداً ويحذر الاعتماد على عقله وتأويلاته تجنباً للانحدار في مزالق ربما طوحت به في طريق إلى جهنم بعيد القرار!

1/3/2015

_________________________________________________________________________________

  1. – د. أكرم ضياء العمري عالم عراقي من مواليد الموصل سنة 1942. وهو من كبار علماء التاريخ وعلوم الحديث. رأس قسم الدراسات العليا في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في الفترة من العام 1977حتى العام 1983. ورأس المجلس العلمي في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في الفترة من العام 1978 حتى العام 1983. عمل أستاذاً للتاريخ الإسلامي في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة . وعضواً في مجلس مركز خدمة السنة والسيرة النبوية. وعضواً في المجلس العلمي بمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف. وأشرف على أكثر من ستين أطروحة ورسالة للدكتوراه والماجستير في الجامعات العربية وخاصة الجامعات السعودية. كما ناقش عدداً كبيراً منها في تخصصات الحديث النبوي والتاريخ الإسلامي والتربية الإسلامية.
  2. – قال د. أكرم العمري في الحاشية: أحمد بن حنبل: فضائل الصحابة 2: 895، وابن سعد: الطبقات الكبرى 4: 151، وأبو نعيم: حلية الأولياء1: 293 جميعهم عن الحسن البصري بإسناد صحيح.
  3. – قال د. العمري: أحمد: فضائل الصحابة 2: 573- 574.
  4. – د. أكرم العمري: البخاري: الصحيح فتح الباري 12: 144- 145، أحمد: المسند 1: 323، والبلاذري: أنساب الأشراف 2: 35 ب.
  5. – د. أكرم العمري: عبد الحميد علي ناصر فقيه: خلافة علي بن أبي طالب ص 92 رساله ماجستير من الجامعة الاعلامية بإشرافي. وراجع البخاري: الصحيح فتح الباري 12: 144- 145، وأحمد: المسند 1: 323 بإسناد صحيح ط. أحمد شاكر، و البلاذري: أنساب الأشراف 2: 35 ب.
  6. – د. أكرم العمري: البخاري: الصحيح فتح الباري 12: 144- 145، وأحمد: المسند 1: 323- 327 ط. أحمد شاكر، وابن أبي خيثمة: التأريخ الكبير، الجزء الخمسون ق 18 وروايته عن ابن عمر منقطعة لاتقوم بها الحجة نسخة المكتبة المحمودية بالمدينة المنوره رقم 28.6- 231.
  7. – د. العمري: عبد الحميد علي ناصر فقيه: خلافة علي 1: 97.
  8. – د. العمري: ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل 4: 167.
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى