مقالات

معاوية رجل المرحلة والمجدد الأول في تاريخ الإسلام

د. طه حامد الدليمي

بعد ست سنين من حكم سيدنا عثمان t بدأ الاضطراب يدب في جسد الدولة الإسلامية، واستمر هذا الاضطراب واشتد ست سنين انتهت بقتله. وجاء من بعده سيدنا علي t فحكم خمس سنين ازداد فيها الاضطراب وتصاعد حتى ختم بقتله. إحدى عشرة سنة بخليفتين والدولة كسفينة تتلاعب بها الأمواج. ثم جاء سيدنا معاوية t فأنهى تلك المرحلة المضطربة وحقق ما كان يتمناه الخليفتان الراشدان من قبله فلم ينالاه، وحكم الدولة عشرين سنة نعمت فيها بالأمن والاستقرار والعدل والرحمة ونشر الرسالة في الخافقين.

لقد تغير الواقع الذي تحكمه الدولة بعد عشرين سنة من وفاة النبي e، فبعد أن كانت صغيرة المساحة نسبة إلى التمدد اللاحق، يغلب عليها الجيل الذي تربى على يد النبي e فهو عارف بالدين ملتزم به إلى أبعد الحدود.. تضاعفت مساحة الدولة عدة مرات، ودخلت فيها شعوب كثيرة متعددة الأعراق والثقافات، منخفضة الفهم والتدين، ضعيفة الولاء. وكثر فيها الحاقدون ذوو الثارات المتربصون سوانح الفرص كي يعيدوا الأمور إلى ما كانت عليه.

إن هذا الوضع الجديد يتطلب سياسة جديدة تختلف عما سبق طبقاً لهذه المتغيرات. لا بد من جهاز استخباري يحمي القيادة من المندسين، وكتيبة حماية للحفاظ على أمن العاصمة، وإحاطة الخليفة بحرس خاص. وسن قوانين تحد من تدفق العلوج وحديثي العهد بالإسلام إلى المدينة وما جاورها. وقد يحتاج الأمر إلى نقل عاصمة الدولة إلى مكان أنسب يأخذ بالحسبان الجغرافيا الجديدة. واستحداث آلية لولاية العهد قبل أن يموت الخليفة فجأة لأي سبب فيؤدي ذلك إلى الخلاف والشقاق وتفكك الدولة. لكن هذا لم يحصل فكان الثمن اختفاء ثلاثة خلفاء غيلة وقتلاً. وإذا كان قتل الخليفة الأول لم ينتج عنه كبير اختلال، فإن قتل الخليفة الثاني كان انقلاباً عسكرياً بكل معنى الكلمة أدى إلى انقلاب سياسي تولى فيه القتلة زمام الأمور فكانوا هم المتحكمين بشؤون الدولة. وقد عبر الخليفة الجديد عن هذا الوضع السياسي الغريب بوصف المتحكمين بأنهم “يملكوننا ولا نملكهم”. وفي المقابل وصف نفسه بعدم القدرة على إصدار الأوامر وتنفيذها فقال واصفاً نفسه: “لا رأي لمن لا يطاع”.

لا بد إذن من تغيير يتناسب والواقع الجديد. تغيير ينتقل بالخلافة من البساطة وأخذ الأمور على ظاهرها إلى نمط يجنح بها إلى التطور لترتقي في مدارج المُلك: أمنياً وعسكرياً وسياسياً واقتصادياً وعمرانياً. فيكون المُلك هو الحكم الرشيد الذي يتطلبه الواقع الجديد. وهو التعبير الأمثل عن الخلافة الراشدة في طورها المناسب للمتغيرات الحادثة. وإلا تطور الاختلال من انقلاب سياسي إلى زوال الدولة الإسلامية نفسها!

كان الواقع الجديد في حاجة ماسة إلى أن يستلم الحكم رجل من الجيل الثاني، ذي قابلية أكبر على مواكبة المتغيرات واستيعابها بمرونة أوسع. من أسرة مارست الحكم، على شعب أو مجتمع ذي طبيعة مقاربة للمجتمع الجديد في عقليته ومفاهيمه ورغباته وشعوبه المختلفة. وأن ينطلق بالحكم من بلاد مؤهلة لأن تكون مركزاً وعاصمة لهذا المجتمع الجديد في موقعها وطبيعة أهلها. فكانت الشام تلك العاصمة الصالحة المؤهلة. وكان معاوية ذلك الرجل. وكانت الظروف مواتية له لأكثر من سبب: وجوده بينهم عشرين سنة أميراً. وكونه ولياً لدم الخليفة المسفوح هدراً. وكونه قائداً محنكاً قديراً مبدعاً نابغة، سليل أسرة عرفت بالمقدرة السياسية وممارسة الحكم من ناحية، وكونها أقوى أسرة في قريش فكانت “العصبية” – أي نواة قوة الدولة الصلبة – فيها من ناحية ثانية.

وزيادة في بيان كيفية تجاوز الزمن لآليات وأدوات السياسة السابقة، وحاجة الدولة إلى آليات وأدوات سياسية جديدة مناسبة، عندما لم تستجب لها الدولة اضطربت حتى تشققت وانقسمت وتدهورت، وحين أخذت بها توحدت واستقرت وتطورت.. إليكم هذا التفصيل:

 

وضع الدولة بين نمطين مختلفين للسياسة

كان عثمان بن عفان خليفة راشداً وكان معاوية بن أبي سفيان ملكاً راشداً. تأملوا هذا الاختلاف بينهما في التعامل مع الوضع الجديد. لقد تصرف عثمان إزاءه تصرف خليفة يغلّب البساطة وحسن الظن في تقدير الأمور وتفسير الأحداث، ويجنح إلى الزهد والإيمان بصورته المجردة الجميلة المطلقة عن قيد الواقع الثقيل. بينما تصرف معاوية إزاءه تصرف ملك يقلب الأمور على وجوهها ويزنها بأبعد مما تبدو عليه، ويوازن بين مقتضيات الإيمان من حيث الأصل غير متعلق بعارض، ومن حيث الفعل مقيداً بعوارضه. ووقع الخطب فإذا بالخليفة يحاول الرجوع إلى ما أشار به عليه الملك فلا يستطيع. هيهات لقد فوات الأوان!

في الموسم الذي سبق مقتل عثمان بعام عقد عثمان t مجلساً للتشاور في شأن النازلة التي حلت بالأمة من قبل أهل الفتنة. فأشار معاوية عليه – دون جميع مستشاريه، وفيهم علي وطلحة والزبير وهم من هم في السبق والدين والخبرة والرأي! – قائلاً: (انطلق معي إلى الشام قبل أن يهجم عليك من لا قبل لك به، فإن أهل الشام على الأمر لم يزالوا). فقال عثمان: (أنا لا أبيع جوار رسول الله e بشيء ولو كان فيه قطع خيط عنقي). فقال معاوية: (أبعث إليك جنداً منهم يقيم بين ظهراني أهل المدينة لنائبة إن نابت المدينة أو إياك). فقال: (أنا أقتر على جيران رسول الله e الأرزاق بجند يساكنهم؟ وأضيق على أهل دار الهجرة والنصرة)؟ فقال معاوية بعد ذلك: (والله يا أمير المؤمنين لتُغتالَنّ أو لَتُغزَيَنّ). قال: (حسبي الله ونعم الوكيل). فخرج معاوية يحذر هذا النفر من كبار الصحابة من الوهن في أمر خليفتهم، ثم مضى إلى الشام([1]).

حتى إذا مر عام وحوصر عثمان واستشار من حوله في الأمر، أشار عليه عبد الله بن الزبير بعدة خيارات منها: اللحاق بالشام، وهو خيار معاوية الأول قبل أن تقع الواقعة، فرفض عثمان. لكنه عمل بالخيار الثاني الذي عرضه عليه معاوية قبل عام وهو الاستنجاد بأجناد أهل الشام([2])، وبقية الأمصار، فأقبلوا عليه بجيوشهم([3]). وهيهات بعد فوات الأوان! ولو استعد للأمر من يوم أن أشار به عليه معاوية لما حصل له ما حصل، وكان أمر الله قدراً مقدوراً. بل كان هذا التدبير المتأخر سبباً في التعجيل بقتله؛ إذ خشي الغوغاء وصول جيوش الأمصار فرأوا أنه لا ينجيهم مما وقعوا  فيه إلا قتل عثمان، لأنه إن قتل انشغل الناس به عنهم([4]). وأما نهي عثمان أهل المدينة عن الدفاع عنه فهو لأجل أنهم ما كان لهم قِبَلٌ بدفع القتلة عنه لتمكنهم منهم، فتكون النتيجة واحدة: القتل بلا طائل وتذهب التضحيات هدراً. أما إذا وصلت النجدات وهو حي فسيُطبَّـق على المجرمين من الخارج ومن الداخل فيكون للقتال ثمرة. فلا تعارض بين الأمرين.

وهنا يثور سؤال في غاية الأهمية: كيف تترك عاصمة الدولة بلا جيش يحميها من نائبة تنوبها أو غائلة تطال الخليفة الذي يحكم العالم القديم من مستقرها؟!

إن هذه إشارة إلى أن سياسة الدولة بقيت على عوائد للحكم تجاوزها الزمن منذ عشرين سنة. وأن الواقع الجديد يستدعي مستحقاته من التجديد، لكن لم يستجب له غير معاوية؛ فكان رجل المرحلة بحق، الذي كان بحق المجدد الأول في تاريخ الإسلام.

 

صراع بين نظام قديم انتهى زمانه ونظام جديد آن أوانه

وفي هذا جملة أمور:

  1. بعد نظر معاوية في الأحداث وإدراك عواقبها واستشراف مآلاتها، وكيفية الاستعداد لها ووضع الحلول الناجعة لمواجهتها.
  2. تفوق معاوية في فنون السياسة وإدارة الدولة وعلاج أزماتها على كبار الصحابة كعثمان وعلي فمن دونهما.
  3. تغير الزمن بحيث ما عاد الورع والاستغراق في الزهد صالحاً للحفاظ على الدولة.
  4. هناك نوع من الجمود السياسي خيّم على عاصمة الدولة، في حاجة إلى تجديد سريع. فالخليفة وأركان حكمه ما زالوا يعيشون على آثار وأجواء الزمن الجميل، بينما الزمن قد تغير وأصبحت عوائد المرحلة الماضية لا تلبي متطلباته، لكن القيادة تتصرف وكأنها لا تريد أن تعترف بما حصل من تغير! هل لكم أن تتصوروا كيف أن عاصمة الدولة لا جيش لها يحفظها ولا حرس يحمي خليفتها! وكيف أن الخليفة في خطر، ومع هذا لم يكن يشغل بال جمهور المدينة غير الحج (ربما سبق لبعضهم أن حجوا عدة مرات) فتوجهوا إلى مكة لأدائه وتركوا الخليفة يصارع الحدث في العاصمة دونهم!
  5. إن استنجاد عثمان سراً بأهل الشام وبقية الأمصار لينقذوه من حصار أهل الفتنة، يدل بوضوح على أنه أدرك لحظتها صواب فكرة معاوية؛ ولولا ذلك ما عمل بها. لكن الأمور حين تؤتى في إدبارها ينقلب التدبير إلى تدمير.
  6. حاجة المرحلة إلى رجل من غير الجيل السابق، وإلا استمرت الدولة في تدهورها.
  7. لم يكن مثل معاوية من يمتلك خبرة الزمن السابق مع امتلاكه لأدوات التعامل مع متطلبات الزمن اللاحق. حتى إذا استلم زمام الأمور استقرت الدولة وعاودت السير على نهجها الأول.
  8. التدهور الذي بدأ منذ النصف الثاني من خلافة عثمان وعامة خلافة علي إنما هو نتيجة تغير الزمن الذي يطالب صامتاً بمستحقاته من التكيف والتغير المناسب، وظل هذا التدهور حتى لبى معاوية هذه المستحقات.
  9. الملك هو امتداد طبيعي للخلافة؛ فحكم الخلافة في زمانه هو الملك عينه في أوانه.
  10. الصراع إذن هو صراع بين نظام قديم فات زمانه، ونظام حديث أو جديد آن أوانه.

14/3/2015

_________________________________________________________________________________

 

[1]– الطبري، 4/345، صحيح الطبري، 3/326، د. محمد طاهر البرزنجي.

[2]– الطبري، 2/298، ابن عساكر، ترجمة عثمان، ص407. منقول عن: الدولة الأموية للدكتور حمدي شاهين، ص176.

[3]– الطبري، 4/368. صحيح الطبري، 3/336-337، د. محمد طاهر البرزنجي.

[4]– الطبري، 3/418، منقول عن: الدولة الأموية للدكتور حمدي شاهين، ص74.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى