مقالات

الانحيازية في كتابة التاريخ (1)

د. طه حامد الدليمي

لم أجد كالتاريخ موضوعاً تشيع فيه الأهواء وتشتجر الآراء، وتمتلئ ساحته بالفجوات، وتحشى فراغاته بالادعاءات، حتى لو قلت: إن “التاريخ أكذب العلوم” لما رأيتني عدوت الحقيقة! على أن هذا لا يلزم منه الإعراض عن الِتاريخ وتركه لغيرنا يعيثون فيه كما يشاءون ويهوَون، ولا يعني خلوه من الفوائد، بل هو مليء بها لكن جواهره تحتاج إلى ناقد بصير يجتهد ما أمكنه ليبتعد عن الانحياز، ينفض عنها الغبار ويعرضها للناظر من جديد.

الانحيازية أحد مشاكل التاريخ وهي أن يتخذ الكاتب فيه فكرة مسبقة ينحاز إليها بلا مستند أو تحقيق علمي، ويبني عليها ما يكتبه من أحداث، ويفسرها تبعاً لها. أما الانحياز المبني على أساس صحيح فلا اعتراض عليه.

اتخذت في هذا البحث الذي قسمته إلى بضع مقالات من الدكتور الليبي الفاضل علي محمد الصلابي نموذجاً يمكن أن يعبر عن مدى تأصل (الانحيازية) في كتابة التاريخ؛ وذلك لأكثر من سبب منها: أنني ألمس وراء انحيازيته قصداً سليماً. ولأنه مكثر من التأليف في التاريخ، وله سمت شيوخ الدين. وهذا كله يؤدي بالقارئ إلى أن تضعف مناعته عن نقد النص فتتسرب الأفكار بنوعيها: القوي والضعيف إليه بصورة أسهل. ومنها أفكار انحاز إليها المؤلف، وهو إسلامي، بسبب الصراع بين (الإسلاميين) و(العلمانيين) بعد زوال الدولة العثمانية. فكانت ردة الفعل من الدولة العلمانية والحنين إلى الدولة الإسلامية سبباً في تمجيد الدولة العثمانية تمجيداً يغض الطرف عن انحرافاتها وأخطائها، ويمنحها صورة زاهية حالمة، يزيدها جمالاً وشغفاً ما تعرض له الإسلاميون من تنكيل وظلم على يد العلمانيين.

كتب الدكتور الصلابي في التاريخ كتباً قيمة أضاف فيها أشياء جديدة، صححت مفاهيم وأثرت المكتبة. لكنني وجدته في بعض مؤلفاته (عمر بن عبد العزيز، محمد الفاتح) يكرر ما قيل، ويتبع منهجية قديمة في حاجة إلى مراجعة وتجديد. وفي غياب المنهجية العلمية تتكرر أخطاء كبيرة تساهم – دون قصد – في تسطيح عقلية النشء العربي، وإضعاف قابليتها على النقد، وإبعادها عن أن تنظر أحداث التاريخ نظرة أقرب إلى الصحة.

لمحة عن منهجية كتاب ( محمد الفاتح ) للدكتور علي الصلابي

تناولت بالحديث كتابه عن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز رحمه الله في مقال لي قبل سنتين([1]) بعنوان (خواطر منهجية عن كتاب “سيرة عمر بن عبد العزيز” للصلابي) وبينت العلل المنهجية في كتابه، وكيف وقع في الفخ الشعوبي. في كتابه الثاني (السلطان محمد الفاتح) عرض الكاتب لتاريخ الدولة العثمانية منذ نشأتها إلى السلطان مراد الثاني، وقد أخذ منه حوالي نصف الكتاب، لينتقل بعده إلى تفصيل سيرة ولده السلطان محمد الفاتح حتى نهاية الكتاب.

لم أجدني في هذا الكتاب أقرأ سيرة أمراء وملوك بدأوا بالتكون والظهور بعد سبعة قرون من تاريخ الإسلام، لهم ما لهم من حسنات وإصابات وعدل ورحمة، وعليهم ما عليهم من سيئات وخطايا ومظالم وأخطاء، بل وجدتني كأنني أتنقل في رحاب سيرة ابن مريم u وليس أحداً سواه، وقد نزل من السماء ليحكم دولة في منتهى العدل والحكمة والرحمة والرفاه والرخاء، استمرت ستة قرون لا ستة أو سبعة أعوام! فمنهج الأمراء والسلاطين رباني على طول الخط، كأنك تقرأ سيرة أبي بكر أو عمر! والنجاح إنما كان بسبب الأخذ بسنن التمكين وفق المنهج النبوي. والدولة قائمة على التوحيد الصافي واتباع السنة خاليةً من البدع. وكل شيء خالف هذه الصورة الحالمة له تبريره وتفسيره الذي يعود به إلى تلك الصورة. كأن التاريخ، وتاريخ بني عثمان خصوصاً، هو الشريعة الإسلامية؛ لا يصح ترك جزئية منها دون دفاع وتوجيه وتبرير.

والكتاب – بعد كل هذا – تشيع فيه تناقضات كثيرة لا يمكن أن لا تكون مع هذه المنهجية التسطيحية للتاريخ، التي تعرض لدراسة دولة عمرت ستة قرون بكل ما حوت من خير وشر، لا يراد لها – من قبل الكاتب – إلا أن تكون خيرة بل في قمة الخير! بحيث يتحسر القارئ على دولة الأمويين والعباسيين لمَ لمْ تكن بهذا المستوى من الأخذ بأسباب العلم والعدل والرحمة؟ هذا مع القوة والعظمة والسعة والعمران!

شعرت وأنا أتصفح الكتاب كأنني أمام منهجية مؤرخ شيعي يعرض لتاريخ بني بويه أو الصفويين، وكيف يمجدهم ويبرر لهم! الفرق أن د. علي الصلابي سني يمدح دولة سنية، وذاك شيعي يتمدح دوله الشيعية.

 

بين الدولة الأموية والدولة العثمانية

في كتابه عن عمر بن عبد العزيز أكثر د. الصلابي من ذم الأمويين ومظالمهم في مقابل مدح صاحب الترجمة. تقرأ الكتاب – كعادة الكتب التي كتبت عن عمر بن عبد العزيز –  فلا تزال عيناك يلوح أمامهما معلمان بارزان لا يحولان ولا يتحولان: عدل عمر بن عبد العزيز في كفة وجور بني أمية في الكفة الأخرى!! تكلم الكاتب عن عدل عمر، لكنه في مقابله ركز على ظلم قومه بني أمية. فدخل في النفق الذي رسمته الشعوبية! وردد هذا مراراً وتكراراً في عناوين متعددة، تقدمت مضامين منوعة، احتوت على أقاصيص وتقريرات تجعل القارئ يستعيذ من دولة الإسلام في زمن خير قرونها وأجمل عصورها! تأمل كم مرةٍ كرر هذا المعنى وأنت تقرأ هذه العناوين في موضوعات عديدة من الكتاب:

العدل في دولة عمر بن عبد العزيز، حث عمر سليمان على رد المظالم، سياسته في رد المظالم، رد مظالم بني أمية، رد الحقوق إلى أصحابها، عزله جميع الولاة والحكام الظالمين، رفع المظالم عن الموالي، رفع المظالم عن أهل الذمة، إقامة العدل لأهل سمرقند، الاكتفاء باليسير من البينات في رد المظالم، وضع المكس، رد المظالم وإخراج زكاتها، إحياؤه مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إعادة توزيع الدخل والثروة بشكل عادل، رد الحقوق لأصحابها، محاسبته لولاة من قبله عن أموال بيت المسلمين، سقيه السم (وهذا أسوأ ما قرأته عنواناً ومضموناً!)! أضف إلى ذلك العناوين الأخرى القريبة، ولا تنس المضامين الظلمية التي انتشرت تحتها وتحت غيرها من العناوين البعيدة!

بهذه الطريقة تمت (شيطنة) الدولة الأموية، وشوه تاريخها في أذهان الأجيال اللاحقة، وصنعت ثقافة شعوبية تركت أسوأ الأثر في التمهيد للاحتلال الشيعي والإيراني لبلدان السنة. وما يجري اليوم من احتلال العواصم العربية بالتتابع شاركت فيه تلك الثقافة مشاركة فاعلة من حيث إنتاجها لشخصية سنية جمعية فاقدة للمناعة الذاتية تتقبل الوجود الشيعي بينها بحجة المواطنة، على العكس من الشخصية الشيعية المسلحة بالمناعة ضد الوجود السني في مناطقها.

ليس اعتراضي أن تاريخ الأمويين خلا من المظالم. فهذا لا يمكن: لا لهم ولا لغيرهم. ولا أن بعض العناوين لا تنطبق على الواقع بدرجة أو أُخرى. إنما اعتراضي على هذا التمادي في وصف قوم بالظلم دون تبين، من قبل كاتب مكثر في التاريخ، في زمن كثر فيه التحقيق، يتراخى عن تحقيق ما يرمي به من تهم في حق دولة إسلامية حكمت في فترة وصفها النبي e بأنها خير القرون، ولا أعتقد أن الأمويين مستثــنَـــون من استحقاقهم للعدل الإلهي: لهم أو عليهم! فالله تعالى أمرنا بالتثبت ونهى عن الانسياق وراء الأخبار دون تبين في أكثر من موضع في كتابه. لكن الصلابي في كتابه عكَس الصورة تماماً!

إن دولة الأمويين كانت في زمن أثنى عليه الصادق المصدوق e أعظم ثناء؛ كما روى البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال النبي e: (خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). قال عمران: لا أدري، أذكر النبي e بعد قرنه قرنين أو ثلاثة. قال النبي e: (إن بعدكم قوماً يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن). هذا عدا الأحاديث التي أثنت على فتوحات معاوية t، وهي صحيحة رواها الإمام البخاري وغيره. وغير الإنجازات العظيمة التي زخر بها تاريخ الدولة الأموية. فكيف تكون هذه الدولة أسوأ وأظلم من دولة قامت بعدها بقرون كثر فيها القوم الذين (يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن). ارتكبت فيها من الأخطاء والمظالم والدماء ما الله وحده به عليم، ناهيك عن العقيدة المشوهة التي تبنتها، والبدع التي نشرتها وأشاعتها، ثم توصف هذه الدولة بأوصاف دونها دولة الخلفاء الراشدين المهديين، في الوقت الذي (تشيطن) فيه دولة أثنى على عهدها وإنجازاتها أعظم النبيين e؟!

نعم مثلت الدولة العثمانية آخر صورة لدولة الإسلام، وآخر جامعة لأغلب دول المسلمين، وكانت حامية لكثير من هذه الدول، وشوكة في حلوق الصفويين والصليبيين واليهود وغيرهم من الطامعين المعتدين، ونحن نعتز بها لهذا وغيره، ولا نغمطها حقها ودورها العظيم. ولكن لن تكون بأي حال خيراً من دولة الأمويين المشهود لها ولزمانها بالخيرية في أكثر من حديث، وتاريخها العظيم شاهد على خيريتها. شيئاً من التوازن يا دكتور علي! لست أمام طلاب ابتدائية تريد أن تعطيهم درساً في الرقائق والتربية، وترمي إلى تحفيز هممهم، وغرس حبهم لأسلافهم، ولو كان الأمر كذلك لربما.. ربما أعذرت. لكنك أمام علم وموضوع خطير هو التاريخ، وقد كتبته للجميع بمن فيهم العالم المختص وطالب العلم الباحث المنقر، والمثقف الذكي اللماح. وهؤلاء ومن على شاكلتهم لا أراهم يتقبلون هذه الطريقة الخطابية الوعظية في طرح التاريخ.

 

18/3/2005

_________________________________________________________________________________

[1]– أي سنة 2008 فالمقال هذا جزء من بحث كتبته في 31/3/2010 عن كتاب (محمد الفاتح) للصلابي.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى