( بعض ) شيوخ المنصات .. بين مسحاة نايف وإمساكية عزاوي
د. طه حامد الدليمي
ما الذي يجمع بين مسحاة فلّاح وإمساكية رمضان؟
هل تصدق أن تلك المسحاة وتلك الإمساكية كثيراً ما اجتمعتا على منصات (الحراك) الذي اجتاح المناطق السنية في العراق، وتعانقتا هناك، وعلى مدار عام كامل!
ولكن من هو نايف صاحب المسحاة؟ ومن هو عزاوي صاحب الإمساكية؟ وكيف قرنت بينهما؟ وجمعت بين مسحاة هذا وإمساكية هذا؟ وما الذي ذكّرك بهما في مثل هذه (الساعة السودة)؟!
تذكرت مسحاة نايف قبل ثلاثة أيام وأنا أشاهد من خلال شاشة تلفاز عراقية أحد شيوخ (الحراك)، كان صوته يدوي مميزاً بالتكبير يهز المنصات وتتجاوب معه حناجر الآلاف وقلوبهم. ولكن دعوني أحدثكم أولاً عن نايف ومسحاته قبل أن أجرح شعور أحد مرهف الحس بحرف ضعيف لا فم مسحاة رهيف.
عبد العلي( ) أحد أقاربي من جهة الأم، رجل مسن، لكنه يهوى المشاكل ويصم أذنيه معها عن أي نصيحة لناصح أو كلمة لعاذل. سَكِـرَ النهر يوماً، وقطع الماء عن أراضي عدة بيوت من أقاربه، وجلس عند السِّكْـر( ) واضعاً بندقيته على ركبتيه محذراً من يريد الاقتراب منه، ولو للتفاهم، أن يكون مصيره الإبادة، ولا بد!
فكّر بعض الظرفاء فلم يجد لها غير نايف!
ونايف رجل معتوه، لكن يمكن شحذ عزيمته ببعض كلمات؛ فإن فعلها كان بها، وإن كانت الأخرى فليذهب غير مأسوف عليه. ولا يُظَن أن الأمر يصل إلى هذا الحد. أرسل إليه بعض الصبيان فمدحوه وذكروا من شجاعته فصبغوه، حتى إذا انتفش وأشرق وجهه أثاروا حميته ضد عبد العلي. فشد نايف حزامه على وسطه، وتشكل ثوبه، ولفّ يشماغه حول قوقته، وحمل مسحاته وقد صوبها باتجاه الأفق كأنها رمح واندفع باتجاه هدفه لا يلوي على شيء، وهو يرعد ويزبد ويوعد عبد العلي بالويل والثبور، والصبيان من حوله يهتفون ويشجعون!
ما إن أصبح عبد العلي على مرمى البصر حتى لاحظ الصبيان تلعثم ساقيه ورجفة في حقويه، وإذا هو يبَـطّئ من سرعته كلما تقدم شوطاً! “ها نايف! خيرك”؟ فأجابهم وهو يبلع ريقه بكلمات متقطعة لم يفهموا منها وسط فحيح لهاثه شيئاً. لكن لسان الحال كان أبلغ. فسألوه: “أيش راح تسوي بعبد العلي”؟ فقال وقد زاد لهاثه ونقصت سرعته وتقاربت خطواته: “أقول له: السلام عليكم عمي، أريد منك شوية مَي”! كانوا في هذه اللحظة قد صاروا في دائرة نظر عبد العلي فحرك بندقيته ورفع صوته بالنكير على “ملاعين الوالدين، أيش تريدون”؟! فما كان من نايف إلا أخذ وضعية (إلى الوراء در) وانطلق لا يلوي على شيء، ومن خلفه الصبيان يهتفون مستنكرين.
تذكرت هذا قبل ثلاثة أيام وأنا أرى شيخ المنصة الذي كان يدوي صوته بالتكبير يملأ الساحات ويهز المنصات على شاشة التلفاز، يأخذ وضعية (إلى الوراء در) وينطلق قائلاً: “لا حاجة بنا للحشد الشعبي؛ نحن قادرون على تحرير الأنبار، لكن نطلب من السيد العبادي أن يزودنا بالسلاح”! أهذه تاليتكم؟!
رحم الله نايف. لقد خلّف من بعده جيلاً، و”الخلّف ما مات”!
إمساكية عزاوي
هل تذكرون مقالتي (مجانين العقلاء وكارثة القيادة) قبل أقل من شهرين؟ وهل ما زلتم تذكرون مقالتي (الحالمون وقصة جعفر المجنون) قبل ثلاث سنين ونصف؟ ما الفرق بين هؤلاء الحالمين وبين المجانين؟ سوى أن المجانين لم يجروا على أهلهم المحن والكوارث. إذن اسمعوا مني قصة واحد من هؤلاء المجانين المساكين.. عزاوي.
ذات رمضان قبيل كارثة الاحتلال دعيت والعائلة إلى فطور عند أحد الأصدقاء. وقبيل غروب شمس ذلك اليوم الجميل اصطحبت أم عبد الله ومضيت إلى حيث دعيت. وعلى مائدة الإفطار رأيت صديقي يبتسم وهو يستكتم ضحكة على وشك الإفلات! ابتسمت بدافع العدوى، وبينما هو لكذلك إذ أطلق أخوه ضحكة مدوية، وقال صديقي: عزاوي يريد منك حاجة وأرجو أن لا تخيبه. قلت: عزاوي يأمر! فتنحنح عزاوي وقال بتأتأته المعهودة: أبو عبد الله، أريد منك تزوجني أم عبد الله! كانت المائدة عامرة لا بأطايب المأكول والمشروب فحسب، وإنما بالضيوف أيضاً. ومن بين الضحكات تمكنت من أن أجيب عزاوي وأقول له: “أبشر جَــتَّـــك بعباتها. فقط عليك إقناعها”. خرج عزاوي ثم عاد وخرج ثم عاد. قالت لي أم عبد الله في طريق العودة: الآن عرفت لماذا عزاوي ينظر إليّ ويبتسم وهو يروح ويجيء كأنه بندول! المهم أن عزاوي بعد قليل قال لي: “أبو عبد الله عندك إمساكية؟ أريد وحدة”. قلت له: أبشر مو وحدة، مية وحدة بس اترك لي أم عبد الله”. فلم يقل شيئاً، وأظن الصفقة هذه قد أرضته!
ما أشبه عزاوي بأولئك الشيوخ، الذين كانت أصواتهم تدوي بالتكبير من فوق المنصات، ويعلنون أنهم لن يتراجعوا عن مطالبهم العشرين (إلا ثلاثة!) مهما كان الثمن؛ فعلى الحكومة تغيير الدستور، وإلغاء مادة (أربعة إرهاب)، وإطلاق المعتقلين والمعتقلات فوراً دون تأخير، وإلغاء المحاصصة والإقصاء، وتشكيل حكومة بعيدة عن الطائفية، و”قادمون يا بغداد”، …! ثم ينتهون بـ(نطلب من السيد العبادي أن يزودنا بالسلاح)! بل ما أشبههم بعزاوي؟!
29/4/2015