مقالات

الخلافة في أحاديث ( الصحيحين )

د. طه حامد الدليمي

لاتنم

هذا المقال جزء من بحث موسع بدأت كتابته سنة 2012 بعنوان (الملك الراشد خلافة على منهاج النبوة)، ونشرت العشرات من موضوعاته في (موقع القادسية) منذ ذلك الحين([1]). فليس هو صدى للتغييرات التي حدثت من بعد، بل هو صوت أصيل، استشرف الأحداث بنور من الله جل في علاه. نوهت في بدايته أنني كتبت البحث لغايتين:

1. وضع أسس فكرية وقائية بين يدي التحولات القائمة والقادمة الممهدة لعودة الإسلام إلى قيادة الحياة، التي بدأت إرهاصاتها بالظهور.

2. علاج الثقافة الشعوبية الشائعة في المجتمع العربي والإسلامي، والمتغلغلة في جميع مفاصله دون شعور منه.

أحاديث الخلافة لا تصلح للتأسيس

تتبعت الأحاديث والآثار المتعلقة بالخلافة والملك، واعتُمدتْ من قبل المعارضين في تأسيس مفهوم (الخلافة) في مقابل ذم (المُلك).. فوجدتها لا تسلم من العلل الأربعة الآتية:

  • لم يصحح منها حديث إلا وهناك من العلماء من ضعفه. والرجحان إلى جانب التضعيف.
  • لا دلالة في متونها؛ فهي متشابهة ظنية الدلالة على ما ذهبوا إليه من تأصيل (الخلافة) وذم المُلك، لا تصلح للاحتجاج مستقلة عن محكماتها.
  • معارضة بمثلها من أحاديث وآثار.
  • معارضة بنصوص القرآن والسنة بما لم يجد أصحابها سوى اللواذ بدعوى النسخ أو التحكم بقاعدة (شرع من قبلنا) بحيث تحمل جزماً على أنه ليس شرعاً لنا، رغم الخلاف المعروف بشأنها، وقول الجمهور بغي ذلك.

وما كان كذلك فلا تقوم به حجة تقوى على نقض نظام عريق (نظام المُلك) لم يعرف سواه في تاريخ البشرية إلا ما ندر، وقام عليه وجود الأمة طوال ألف وثلاثمئة عام، وليس في القرآن الكريم دليل على ذمه أو بطلانه البتة. بل الدليل واضح في مدح القائمين عليه، ولا يجد المخالفون سوى دعوى النسخ في رده. فقد عين الله تعالى بنفسه ملوكاً، ومنهم أنبياء، ومدحهم وأثنى عليهم. وهذا يؤكد الخطأ المنهجي الخطير في إهمال تقريرات القرآن وأحكامه في أمر ورد فيه، والقفز مباشرة إلى مناقشة ذلك النوع من الحجج الحديثية. وهو ما وقع فيه معارضو (المُلك).

كالقرآن .. ليس في ( الصحيحين ) حديث للنبي عن الخلافة

لفت انتباهي وأنا أدرس الأحاديث التي ذكر فيها الخلافة والملك، أنها جميعاً تدور خارج نطاق (الصحيحين: البخاري ومسلم)! فقلت: دعني أتأكد من هذا لأرى هل (الصحيحان) خاليان فعلاً من ذكر (الخلافة)؟ فإن كان هذا حقيقة فإنه يعني أن القرآن والسنة (في أوثق مصادرها) لم يأبها بموضوع (الخلافة)، وأن هذا الأمر لم يأخذ من القرآن العظيم ولا اهتمام النبي الكريم حيزاً يذكر. وما كان كذلك فأنه غير ذي موضوع، وأن الاهتمام بما لم يهتم به القرآن ولا النبي ولا الصحابة الكرام حين تنزل الوحي ولو لحظة واحدة لا معنى له. وهذا يؤكد يقيناً أن الإسلام إنما يهمه من الحكم مضمونه وجوهره، وهو (الحكم بالشرع ضمن ضوابطه من العدل والرحمة والشورى وما إلى ذلك)، ولا يهمه من الحكم شكله ومظهره. ولا اسمه: خلافة كان أم مُلكاً أم غيرهما.

وفعلت.. وكانت المفاجأة!

من بين أكثر من ثمانية آلاف حديث في (الصحيحين) لا يوجد حديث للنبي في موضوع (الخلافة) البتة! هذا مع شدة الحاجة لذكره وبيان مضمونه مرتبطاً باسمه؛ وذلك لتعلقه الشديد بحياة الناس وكينونة المجتمع، لو كان هو الأمر الذي يتعلق بها، وليس شيئاً آخر هو مضمون الأمر وجوهره، وليس شكله ومظهره.

قلت: لأبحث عن ورود كلمة (الخليفة) لعلها تكشف لنا شيئاً ذا أثر منتج في الموضوع.

وفعلت.. فإذا الأمر مطابق للقرآن تمام المطابقة، فكما ورد لفظ (الخليفة) في القرآن الكريم مرتين فقط: مرة عن آدم ومرة عن داود ، وفي كلتا المرتين ورد اللفظ بالمعنى اللغوي العام لا الاصطلاحي السياسي الخاص، ولم يكن المقصود به نظاماً للحكم برسم واسم (الخلافة)؛ فخلافة آدم خلافة عمران لغوية لا خلافة حكم سياسية، وخلافة داود خلافة مُلك؛ فليست الخلافة شيئاً خاصاً مستقلاً بنفسه متميزاً عن المُلك، كما يدعي الطاعنون به.. فكذلك ورد لفظ (الخليفة) في (الصحيحين)، وبما يعزز توحد اللفظين: الخلافة والمُلك في معنى واحد. ولم يكن في (البخاري) سوى حديث واحد فقط عن النبي تضمن لفظ (الخليفة)، وفي (مسلم) ثلاثة أحاديث فقط. وجميعها بالمعنى اللغوي لا الاصطلاحي السياسي. وهذا من دلائل عظمة هذين الكتابين، وشدة التصاقهما بالقرآن الكريم!

لفظ ( الخليفة ) في لغة البخاري أوسع من حصره بالمعنى السياسي

بل فوق ذلك وجدت لفظ (الخليفة) استعمله الإمام البخاري على نطاق أوسع من الرئاسة بمعناها السياسي، وهو الدلالة على مجرد الحاكم في أي شأن من شؤون الحكم، فأطلقه البخاري على القاضي، فقال: (باب: متى يستوجب الرجل القضاء وقال الحسن: “أخذ الله على الحكام أن لا يتبعوا الهوى، ولا يخشوا الناس، ولا يشتروا بآياتي ثمناً قليلاً، ثم قرأ: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب}، وقرأ: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله، وكانوا عليه شهداء، فلا تخشوا الناس واخشون، ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44]. “{بما استحفظوا} [المائدة: 44]: استودعوا من كتاب الله”. وقرأ: {وداود، وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً}، “فحمد سليمان ولم يلم داود. ولولا ما ذكر الله من أمر هذين لرأيت أن القضاة هلكوا، فإنه أثنى على هذا بعلمه وعذر هذا باجتهاده”. وقال مزاحم بن زفر: قال لنا عمر بن عبد العزيز: “خمس إذا أخطأ القاضي منهن خصلة، كانت فيه وصمة: أن يكون فهماً، حليماً، عفيفاً، صليباً، عالماً، سؤولاً عن العلم”.

فانظر – رعاك الله – كيف توحدت هذه الألفاظ عند البخاري في هذا النص: (الخليفة، الحاكم، القاضي). ويمكن إضافة لفظ (الملك) أيضاً لذكره داود وسليمان عليهما السلام. وهو النص الوحيد في (صحيح البخاري) الذي ورد فيه لفظ “الخليفة”!

الخلافة .. بالاستعمال اللغوي العام لا السياسي الاصطلاحي الخاص

في مواضع نادرة وردت كلمة (الخلافة) في نصوص من (الصحيحين) ليست من قول النبي ، وكانت في مساق الاستعمال اللغوي البحت الذي يراد به العهد أو الفترة الزمنية من حكم الخليفة. لهذا تتبادل المواقع مع مرادفاتها الزمنية (الإمارة، والعهد)، ويقال في بعض المواضع في نص واحد: “إمارة أبي بكر وخلافة معاوية”. كما في رواية مسلم عن نافع: أن ابن عمر كان يكري مزارعه على عهد رسول الله ، وفي إمارة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وصدراً من خلافة معاوية”. فقال: “إمارة أبي بكر” مقترنة بقوله “خلافة معاوية”؛ وهو دليل على توحد المقصود بهذه الألفاظ، وأنه لم يكن لديهم فصل حاد بين معانيها يصل حد الفصام النكد، كالذي ابتلي به المتأخرون من الفهم الذي جعلهم يذمون المُلك بإطلاق، ويهيمون بالخلافة بإطلاق. ونافع مولى تعلم اللغة من العرب؛ فحين يزاوج بين هذه الألفاظ ويبادل بينها، فهذا يعني أن هذا هو الذي تعلمه منهم. لكن يبدو أن فهم بعض المتأخرين من العرب أدنى من فهم بعض العجم للغة العرب!

الثلاثاء

11/8/2015

___________________________________________________________________________________________

  1. – أول مقال نشرته من كتاب (الملك الراشد خلافة على منهاج النبوة) نشرته بتاريخ 9/12/2012، وكان بعنوان (معاوية بن أبي سفيان أول المجددين والملوك الراشدين في تاريخ الإسلام). وابتدأ المقال بهذا النص: “يمر أهل السنة في المشرق العربي والإسلامي اليوم بمرحلة حرجة، شديدة الحرج.. خطيرة، شديدة الخطورة. يأتي على رأس الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع الحرج الخطير، ضعف الشعور بالهوية، وتشتت الرؤية بشأنها؛ وذلك لتخلف ثقافة الجمهور، وفقدان فقه الهوية عند العلماء، وعدم وجود أثر له لا في ميدان العلم ولا الحركة العامة للثقافة”. تبعته سلسلة مقالات عن سيدنا معاوية بلغت (5) مقالات. لأدخل بعدها في صلب موضوع الخلافة والملك في سلسلة مقالات بلغت(50) مقالة، كانت أولاها بتاريخ 25/1/2013 وبعنوان (الخلافة و الملك مقدمات علمية أساسية). ابتدأت المقالة بسؤال: (أيهما أفضل: الخلافة أم الملك؟). وانتهت بالعبارة التالية: ” قد يكون مُلك راشد خيراً من خلافة راشدة والعكس صحيح. إن التفاضل بين النظامين: الخلافي والملَكي، في حقيقته إنما هو بحسب قرب أحدهما من الرشاد وبعده عنه. وقد يكون كلاهما راشدين بحسب غلبة عناصر الرشاد على سواه. فكما يقال: خلافة راشدة أو خلافة نبوة، يصح أن يقال: ملك راشد أو ملك نبوة. وإذن متى ما كان الرشاد أكثر تحققاً في أحدهما كان أفضل من الآخر. فقد يكون ملك راشد خيراً من خلافة راشدة، والعكس صحيح. وقد كان مُلك سليمان خيراً من خلافة عمر بن الخطاب . ما في ذلك من شك”.
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى