مقالات

أيهما أول : الجهاد .. ؟ أم المشروع والاستعداد ؟ جهود الأمة بين التسريب والامتصاص

د. طه حامد الدليمي 

ودون مقدمات أقول: يبدو لي أن العقل الجمعي للأمة..

  • لم يعِ حتى اللحظة أن الدولة العثمانية التي كان يجاهد تحت رايتها قد زالت.
  • وأنه ليس اليوم من دولة أو بديل عن الدولة يحتضن جهوده ويحوي ثمارها.
  • وأن كل جهد فاقد لكيان قوي قادر على احتضانه فهو مضيع.
  • وأن بداية الطريق هو العمل على تأسيس هذا الكيان.
  • وأن أساس هذا الكيان جمهور واع متكافل منظم، نسهر على تربيته وتنظيمه من خلال تلبية حاجاته سبيلاً للتخفيف من معاناته وكسب ثقته وصولاً لاستقطابه.
  • وأننا لا نحتاج لإقامة هذا الكيان إلا إلى نسبة قليلة من الجمهور الكبير قد لا تتجاوز (1%) منه، وليس الجمهور كله.
  • وأن هذا الهدف مقدور عليه، ومن تصور غير ذلك فنقول له:

يا ابنَ الكرامِ أَلا تدنو فتبصرَ ما         قدْ حدّثوكَ فما راءٍ كمَنْ سمِعا

فعجل فنحن – بعد الله – بك؛ وإلا طال بنا زمان التيه.

  • وأن هذا هو الذي فعله نبينا e منه بدأ، وعليه صبر وكابد وجاهد حتى نال بغيته ولو بعد حين. روى البخاري عن خَبّاب بن الأرت t قال: شكونا إلى رسول الله e، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: (كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).

إن بناء جيل ذي رسالة عالمية وبناء مجتمع وتأسيس دولة متحضرة بمنظومة قيم راقية، لا يمكن أن يكون بطريقة الطفرة، أو الحماس واعتماد التنفيس المباشر عن الغيظ بالقتال. إن الصبر ثلاث عشرة سنة لإعداد ذلك الجيل هو الذي أهله للقيادة العالمية، ولولا ذلك لكان مصير حركة الإسلام مصير حركات الجهاد منذ مئة عام.

 

لماذا ؟ و ….. ماذا ؟

وهل انتبهت إلى التعبير: النبي e “مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ” في وقت كانت فيه سمية مصلوبة على خشبة، وخباب يوضع الجمر على كتفيه حتى يطفئه الدهن الذائب منهما! لماذا لم يعتمد النبي e القتال سبيلاً للخلاص من ذلك الوضع، وبرنامجاً لتحقيق هدفه العظيم وهو في مكة، واكتفى بالأمر بالصبر وهو يرى بلالاً وياسر وسمية والزنيرة وغيرهم يعذبون ويطاردون، وبعضهم ماتوا تحت التعذيب. وأمر البعض الآخر بالهجرة إلى الحبشة.. حتى هاجر إلى المدينة وتهيأت له الظروف المناسبة؟

ماذا ستكون النتيجة لو قاتل النبي e أعداءه في مكة؟

النتيجة ستكون هي النتيجة التي حلت بسنة العراق يوم قاتلوا المحتل. وهي النتيجة التي حلت بسنة سوريا يوم قاتلوا النظام. وهي النتيجة نفسها التي آض إليها القتال في أفغانستان من قبل، وآلت إليها جميع حركات الجهاد منذ زوال الدولة العثمانية وحتى اليوم. وهي النتيجة التي لم نسمع أن قادة الجهاد في يوم من الأيام تواضعوا فسألوا عن أسبابها، وعقدوا مؤتمراً لمناقشتها والخروج بخلاصة تكون منطلقاً لعمل جديد، لا الهروب إلى الأمام خوفاً من النظر في وجه الحقيقة التي يكابرون حتى اللحظة الاعتراف بها. هل تعلم أن كبار أمراء المقاومة العراقية اليوم استدرجوا (أقول: “استدرجوا” لأن بعضهم لا يمكنني التشكيك فيه) إلى مؤتمرات تقودها أمريكا؟! فعلام إذن بالأمس قاتلوها واليوم قد صاحبوها؟! أنا أسأل فقط وبلسان الملايين من سنة العراق. كما أسأل وأقول: فأين دماء الشهداء؟ ونحيب الثكالى؟ وأنين الأسرى؟ إن كان ما فعلوه من قبل خطأً فليعترفوا صراحة. وإن كان حقاً فما عدا مما بدا!

لو بدأ المسلمون فقاتلوا الكفار في مكة قبل الإعداد الحضاري لاستؤصلوا من الأرض يومها كما استؤصل سنة العراق من العراق اليوم! هذه هي الحلقة التي ندور في فراغها، والتيه الذي نضطرب في صحرائه منذ مئة عام.

لقد انتصر النبي e لأنه ربى جماعة متكافلة متآزرة نمت وزكت على مفاهيم الإيمان والخلق والحضارة، ثم أوجد أرضاً فيها شعب يفيء إليها، وجيش يحميها. من هنا الانطلاق. إن صبر ثلاثة عشر عاماً لتربية ذلك الجيل تربية مدنية حضارية هي التي أهلته لبناء دولة استمرت ثلاثة عشر قرناً. ونحن منذ مئة عام نحاول فلا نبوء بشيء! هل أدركت لماذا؟

 

فأين الجهاد مما نحن فيه ؟

ليس في آيات الجهاد ناسخ ومنسوخ، وإنما تُعمل حسب حال الأمة من الضعف والقوة. هذا قول كبار علماء الأمة: ومنهم شيخ الإسلام الذي قال (الصارم المسلول:221): “فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذى الله ورسوله من الذين أوتو الكتاب والمشركين. وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوه الجزية عن يد وهم صاغرون”. وبمثله قال الطبري وابن العربي وابن القيم وابن كثير وابن حجر والقرطبي والزركشي، ومن المتأخرين الشوكاني وابن باز وسيد قطب. ولا تكاد تجد لهم عند التحقيق مخالفاً.

فما نحن فيه من العمل التأسيسي المدني قبل الشروع في العمل العسكري والسياسي هو عين الجهاد، بل هو الجهاد الأكبر الذي نزل فيه بمكة قوله تعالى: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) (الفرقان:52). قال الطبري: جاهدهم بهذا القرآن جهاداً كبيراً، حتى ينقادوا للإقرار بما فيه من فرائض الله، ويدينوا به ويذعنوا للعمل بجميعه طوعاً وكرهاً… قال ابن عباس: (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به) قال: بالقرآن.

الجهاد باق إلى يوم القيامة، ولكنه بحسب حال المؤمنين من الضعف والقوة، فيكون مرة تربية وإعداداً مدنياً، ومرة جهاد دفع، وثالثة جهاد طلب. وقد تضطر دولة الإسلام فتدفع الجزية لدولة كفر تجنباً لشرها. والقتال بنوعيه: الطلب والدفع، مقيد بوجود كيان يفيئ إليه المجاهدون قادر على استثمار جهدهم، وعدم ضياعه في سلال المقتسمين. والعلماء القدماء حين تكلموا عن جهاد الدفع وأحكامه والفرق بينه وبين جهاد الطلب فإنما تكلموا وهم في ظلال دولة إسلامية. ولهذا لما تكلم ابن القيم عن جهاد الدفع (الفروسية/188) مثّل له بـ”جهاد المسلمين يوم أحد والخندق”. وأما القول بأن جهاد الدفع مطلق عن الشروط والقيود فهو قول مبني على التعجل في فهم إطلاقات قالها بعض العلماء تنظيراً أو تأصيلاً لا إفتاءً وتطبيقاً. ومعلوم عند العلماء أن الحكم عند الإفتاء والتطبيق العملي قد يختلف عنه عند التأصيل النظري. ولبسط هذا موضع آخر. لكن انظروا إلى هذه المفارقة:

عند غزو الأمريكان كان في العراق عدوان خطيران: إيران والأمريكان، لا عدو واحد. فكان الواجب وضع خطة متوازنة تأخذ بالاعتبار هذه الثنائية. لكن في حومة الحماس والتعجل في فهم قول العلماء عن جهاد الدفع قاد السنة العرب إلى قتال الأمريكان دون أخذ الحيطة من العدو الآخر، وهذا ما خطط له هذا العدو فأوقعهم في فخ خطير لم يخرجوا منه حتى اليوم!

 

لو لم يقاتل سنة العراق الأمريكان

دفَعَ سنة العراق لمقاومة المحتل الأمريكي أثماناً كارثية باهظة لا حاجة بنا إلى تفصيلها، وكانت النتيجة – في غياب المشروع المتوازن – أن قطف الشيعة ثمار جهودهم، وهم خرجوا من ديارهم يتكففون لقمة الهوان ومسكن الذل على أعتاب الآخرين.

ولو افترضنا أبعد الفرضيات فقلنا: لو أن السنة العرب لزموا مساكنهم ولم يفعلوا أي شيء تجاه الأمريكان، هل يمكن أن يؤول أمرهم إلى أشد مما هم عليه اليوم؟ كلا والله! أفتكون أحكام الشرع عبثية إلى هذا الحد؟! تضحيات أسطورية ونتائج تحت صفرية! حاشى لله! لقد أثبت الواقع في مثل حال سنة العراق، أن مفسدة الصبر على وجود المحتل أقل بما لا مقارنة فيه من مفسدة قتاله. فكان الواجب الانصراف إلى ما قلنا من الإعداد قبل الجهاد. وهو الواجب المتعين علينا اليوم.

الوعي الوعي أيها السنة! أيتها الأمة!

وإلا فجهودكم ضائعة بين أنفاق التسريب في أفغانستان والعراق وسوريا وأشباهها، وإسفنجة الامتصاص الخطيرة في فلسطين. ما لم تعودوا فتبدأوا من حيث بدأ النبي e لتنتهوا إلى ما انتهى إليه.

12/10/2015

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى