حديث ( لو كان الإيمان عند الثريا…) مدح للفرس أم ذم ؟ .. عروبة العلماء (5)
د. طه حامد الدليمي
توجد أحاديث في دواوين الحديث يفهم من ظاهرها ما فيه مدح للفرس بإطلاق، دون اعتبار لكل المعطيات المناقضة على أرض الواقع والتاريخ الدامي والمليء بالدس والتآمر والتخريب والتحريف والكوارث التي لم تصب الأمة بمثلها أبداً على يد الفرس! ولو لم يكن إلا التشيع لكفى به شراً!
فقد روى الإمام البخاري قال: حدثني عبد العزيز بن عبد الله، قال: حدثني سليمان بن بلال عن ثور عن أبي الغيث عن أبي هريرة قال: كنا جلوساً عند النبي فأنزلت عليه سورة الجمعة (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) قال: قلت: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثاً. وفينا سلمان الفارسي، وضع رسول الله يده على سلمان ثم قال: (لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال أو رجل من هؤلاء).
وروى فقال: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا عبد العزيز، أخبرني ثور، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة، عن النبي : (لناله رجال من هؤلاء).
وروى مسلم الحديث بسندين: الأول يلتقي مع سند البخاري: عن عبد العزيز يعني ابن محمد عن ثور عن أبي الغيث عن أبي هريرة. بلفظ (لو كان الإيمان عند الثريا، لناله رجال من هؤلاء). والآخر: حدثني محمد بن رافع (حدثنا)، وعبد بن حميد (أخبرنا) عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن جعفر الجزري، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله : (لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس – أو قال – من أبناء فارس حتى يتناوله). الأول بالجمع (رجال) والثاني بالإفراد (رجل).
ورواه أحمد في (المسند) بسندين: أحدهما: حدثنا إسحق بن يوسف، وهو الأزرق، أخبرنا عوف عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة، قال: سمعته يقول: قال رسول الله : (لو كان العلم بالثريا لتناوله أناس من أبناء فارس). والآخر: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن جعفر الجزري عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : (لو كان الدين عند الثريا لذهب رجل من فارس – أو أبناء فارس – حتى يتناوله). الأول بلفظ (العلم).
ولي عند هذه الرواية وقفتان: الأولى عند المتن، أبين فيها أن المتن لا دلالة فيه على ما ذهب إليه المتوهمون من فضل علماء الفرس. أرجو الانتباه إلى أنني لا أنفي الفضل لأهله مطلقاً، وإنما دلالة الرواية على ذلك. والثانية عند السند أبين فيها أن الرواية ليست على شرط البخاري ومسلم؛ فلا يصح أن تنسب إليهما بإطلاق كما تنسب الأحاديث التي فيهما على شرط الشيخين. وهذه مسألة دقيقة ومعقدة تمثل ثغرة يدخل منها الزائغون، وتنفذ منها الشبهة إلى عقول غير المدققين.
أولاً : متن الرواية
الإيمان أم العلم ؟
لم ترد الرواية بلفظ (العلم) في (الصحيحين)، لكن وردت في مسند أحمد في إحدى روايتيه، والرواية الثانية كانت بلفظ (الدين). فموضوع العلم عند النسبة إلى (الصحيحين) يخرج عن نطاق الاحتجاج؛ فليس العلم هو موضع النقاش، إنما الدين والإيمان. ولا علاقة شرطية بين الأمرين؛ فقد يرزق المرء إيماناً ولا يرزق علماً. قال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (المجادلة:11). وعند النسبة للمسند فيحتاج الأمر إلى تحقيق وترجيح؛ فالنبي إما قال: (العلم) أو قال: (الإيمان). والدين مقارب للفظ الإيمان. والترجيح ظاهر إلى جانب (الإيمان) لا جانب (العلم). فلا حجة في المتن للدلالة على الثناء على علم أبناء فارس وتميزهم.
رجال ؟ أم رجل ؟
1. الرواية بلفظ الجمع ( رجال )
لو أعدنا النظر في نصوص الحديث لوجدناها تتحدث عن رجل أو رجال من الفرس يؤمنون ويدينون بدين الإسلام.
فإن إخذنا بلفظ (رجال) فليس في هذا نكرة ولا غرابة، حتى لو كان المقصود هو العلم؛ فإن الأمم كلها قد دخل في دين الإسلام منها رجال، آمنوا بهذا الدين وحملوه إلى غيرهم. وقد وقع ما أخبر به النبي فآمن من الفرس رجال، وكان منهم العلماء والدعاة والمجاهدون في سبيل الله. ولسنا ننكر ذلك، ولا ننفسهم عليه. وهو من باب قوله تعالى عن اليهود والنصارى وأمثالهم: (لَيْسُوا سَوَاءً) (آل عمران:113). وقد آمن رجال من اليهود منهم الصحابي الجليل عبد الله بن سلام ، وكثير من النصارى فكان منهم العلماء والعباد والمجاهدون. وليس أن يقع مثله من الفرس ببدع من الحوادث، أو خوارقها!
ومن حيث دلالة كلمة (رجال) على العدد؛ فاللفظ يصلح لاثنين فأكثر. بل قد يصلح للواحد؛ فإن الجمع يمكن أن يعبر به عن الواحد في لغة العرب. وهنا يمكن الجمع بين اللفظين: (رجل ورجال).
2. الرواية بلفظ الإفراد ( رجل من فارس )
أما إذا أخذنا برواية الإفراد: (لناله رجل من هؤلاء) فالأمر يخف كثيراً:
أ. فقد يكون المقصود به سلمان نفسه. وعندها لا يحتاج الموضوع إلى تعليق أصلاً.
ب. بل الصياغة لا تخلو من إشارة إلى قلة الدين والإيمان في أمة الفرس؛ فأن ينال الدين أو الإيمان – أو حتى العلم – رجل، أمر في غاية القلة. فهو إلى الذم أقرب منه إلى المدح.
وعند التدقيق في لغة النص يظهر اضطراب لا يليق بلغة النبوة؛ فظاهر الحديث أن القصد من القول هو المدح والتميز، لكن النص ضعيف الدلالة على المدح. ثم إنه لا ميزة فيه؛ فما ذكر أمر مشترك بين جميع الشعوب. ويكاد يخلو من أي أثارة للمدح، ومن أراد المدح لا يختار مثل هذا اللفظ الضعيف الدلالة عليه. والنص – بعد ذلك – أقرب إلى الذم منه إلى المدح.
إن هذا يشير عندي إلى أمر خفي، وهو أن المتن من صياغة من لا يجيد لغة العرب. وبحثت فوجدت في السند موالي. مثلاً أبا الغيث كان مولى لابن مطيع العدوي. والموالي – خصوصاً الفرس – فيهم تعصب شديد لعنصرهم. وقد أشار المحدثون إلى مراعاة الأمر النفسي فيما يتعلق بالبدعة، فاشترطوا للمبتدع الثقة أن لا يكون داعية لبدعته، وأن لا يكون ما يرويه مما يخدم بدعته. والأمر في حاجة إلى غوص، لإلحاق النظير بالنظير والفرع بالأصل. فإن هذا التوجيه (احتمال اختراع ما ينصر البدعة من قبل المبتدع وإن كان ثقة) فرع لأصل، والأصل هو أن المرء يمكن أن يميل مع هواه وإن كان ثقة؛ فيجب الابتعاد عما يرويه من أحاديث تدخل في نطاق الهوى: بدعة أم غيرها.
لقد أصل المحدثون هذا الأصل، لكن بطريقة التمثيل بما يشير إليه، وهو البدعة. لكن الهوى له أمثلة كثيرة، على رأسها الميل للقوم والعشيرة والحزب والطائفة والجماعة. ومن أعظم الخلق هوى وميلاً لعنصرهم وقوميتهم هم الفرس؛ فينبغي أن نراعي هذه الملاحظة، وهي تجنب ما يرويه المولى – وإن كان ثقة – مما يؤيد عنصريته. ويبدو أن جمهور قدماء المحدثين لم ينتبهوا إلى هذا الأمر. وأرى أن السبب عدم نضوج علم النفس والاجتماع في أزمنة التأسيس الحديثي. وجاء المتأخرون فنسجوا على منوال المتقدمين، دون الانتباه إلى هذا الأمر الذي يجري على سنن أصول الأقدمين، ولا يخرج عنها.
وهنا يأتي مجال البحث في السند. الذي نؤجله إلى مقال لاحق، إن شاء الله تعالى، خشية الإطالة.
6/1/2016