مقالات

شجاعة القائد وجناية الثقافة الموروثة

د. طه حامد الدليمي

دراية.. ريادة .. إرادة .. إدارة.

أربع كلمات ذات مبنى صرفي واحد! كأنها تقول: نحن تكوين واحد، نشأ من أصل واحد، ويهدف إلى غاية واحدة لن تتحقق إلا بهذا التكوين الواحد.

دراية فائقة، وريادة جاذبة، وإرادة دافعة، وإدارة نافذة.. رباعية متلازمة في تكوين شخصية القائد الأصيل. وبتفاوت نسب ظهور آثار هذه القوى في خلطة التركيب التي تتكون منها شخصية القائد تنتج لنا طرُز أو أنواع متعددة من القيادات.

شجاعة القائد ليست بمعزل عن هذا التركيب الجميل، بل هي في لبه وصلبه.

الشجاعة الراسخة ناتج متوازن من إرادة عالية، ودراية واعية. ولا خير في شجاعة متعجلة لا تراعي المعنى الكبير في قول القائل:

الرأيُ قبل شَجاعةِ الشُّجعانِ هوَ أوّلٌ وهيَ المحَلُّ الثّانِي

ومشكلة المشاكل عند أهل العراق تقديم الشجاعة على الرأي، والإفراط فيها حد التهور، والتباري في ذلك بين الأقران. وهذا أحد أسباب فقدان الجسم المدني في المشروع، بل فقدان المشروع نفسه.

المشكلة الثانية عند أهل العراق الإفراط في الكرم. والكرم إذا جاوز اعتدال الربانية كان خَصلة شيطانية وصف الله أصحابها فقال: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27الإسراء:). والإفراط في الشجاعة، أو تقديمها على الرأي، مثل الإفراط في الكرم، من نزغات الشياطين الخطيرة، التي لا تقوم لأصحابها قائمة.

شجاعة النبي

كان النبي محمد في القمة من الشجاعة، وكانت شجاعته يعنو لصولتها أشجع الشجعان. يصفها سيدنا علي فيقول: “كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله فما يكون منَّا أحدٌ أدنى من القوم منه”([1]). وأخبار شجاعته معروفة.

ومع ذلك كان رسول الله يمر بأصحابه يعذبون فلا يملك لهم إلا الدعاء. لم يستخفه المشهد المؤلم فيخرجه التصرف المرتجل عن سياق المشروع المنقذ. وكان الصحابة يأتون إليه وهم في تلك الحال يستنصرونه فلا يستفزه ذلك عن مساره. فعن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: (قد كان من قبلكم، يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)([2]). هذه هي الشجاعة.. إرادة عالية ودراية واعية.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج أبي شاهراً سيفه راكباً على راحلته إلى وادي القصة، فجاء علي بن أبي طالب فأخذ بزمام راحلته فقال: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ أقول لك ما قال رسول الله يوم أحد: (لمَّ سيفك ولا تفجعنا بنفسك)؛ فوالله لئن أصبنا بك لا يكون للإسلام بعدك نظام أبداً. فرجع وأمضى الجيش([3]). يقصد بـ(يوم أحد) لما أراد أبو بكر أن يبارز ابنه عبد الرحمن.

وأشار سعد بن معاذ على رسول الله فبنى الصحابة له عريشاً أو قبة يشرف منها على المعركة ومعه أبو بكر الصديق يحرسه. . ولأمر ما أحاط الخالق البديع جوهرة الدماغ بالقحف الصلب، ومضغة الفؤاد بشبكة محكمة من الأضلاع.

الشجاعة في الثقافة السائدة

الثقافة السائدة التي تريد من القائد أن يكون دوماً في وسط معمعان الأحداث دون ضرورة، ولا تقدير للموقف يسبق ذلك.. هذه الثقافة في حاجة ماسة إلى ترشيد لا تأييد.

بنيت هذه الثقافة على مقولات حماسية رددها الإعلام كثيراً حتى رسخها فصارت طابعاً مميزاً لطبيعة شعوب المنطقة. خذ مثلاً شعار الجيش العراقي: “النصر أو الشهادة”. إنه يصلح عبارةً حماسيةً في موقف يستدعيها، ويناسب أجواء العسكرية لكن بتفصيل يشرح للجنود لا بد من بيانه بوضوح. أما أن يكون قاعدة ثابتة من قواعد البناء الحضاري للشعوب الناهضة فلا. وقد جنى هذا الشعار علينا كثيراً كما يقول الخبير العسكري الفريق الركن القائد رعد الحمداني.

“النصر أو الانسحاب” متحيزاً إلى فئة، هي القاعدة، وهي السلوك الحضاري. أما التربية على الاستعداد للشهادة فهي لبناء حالة نفسية معنوية يتدرع بها المجاهد لمواجهة أسوأ الاحتمالات وموقف يفرض نفسه انتهاء لا غرض يطلب لغيرما ضرورة تلجئ ابتداءً. والقرآن العظيم في حومة بعث الحماس في نفوس المسلمين لا يغفل أن يقول لهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (الأنفال:16،15)! وتأسيساً على هذه التوجيه الرباني قال النبي عن انسحاب خالد بجيش مؤتة: (حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم)([4]). وقد روي عنه أنه قال: (بل هم الكرارون). وهي تصحيح لثقافة: (أنتم الفرارون) التي روي أن جمهور المدينة قالها لهم، حتى إن الرجل يجيء إلى أهل بيته يدق عليهم بابه فيأبون يفتحون له ويقولون: هلا تقدمت مع أصحابك فقتلت؟ وفيها وفيما أسلفت من أدلة غنية لتصحيح هذه الثقافة المتهورة التي ما زالت تتغلغل إلينا عبر نسغ التاريخ النازل حتى أمست هي الثقافة السائدة متجاوزة حدود المنطق السليم بجناحيه: الشرع والعقل. وخير من ذلك كله دليلاً قوله تعالى: (الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال:66).

16/1/2016

___________________________________________________________________________________________

  1. – مسند الإمام أحمد بن حنبل، 2/56، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (ت 241هـ)، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار الحديث – القاهرة، الطبعة الأولى، 1416هـ – 1995م. قال المحقق: إسناده صحيح.
  2. – صحيح البخاري، 9/20، دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، الطبعة الأولى، 1422هـ. كانت هذه المنطقة آنذاك يحكمها الفرس؛ يبدو أن الفرس حيثما حلوا أو حكموا نشروا الخوف والخراب والفتن.
  3. – البداية والنهاية، 6/315، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (ت 774هـ)، دار الفكر، 1407هـ – 1986م.
  4. – رواه البخاري، 5/27، عن أنس . مصدر سابق.
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى