مقالات

علماء الفرس وغيرهم نتاج حضارة عربية .. عروبة العلماء (4)

د. طه حامد الدليمي

ينسب البعض علماء الأمة من أصل فارسي، الذين ظهروا في العصر العربي الإسلامي إلى الحضارة الفارسية التي بادت آنذاك وغادرت عالم الوجود وحلت محلها الحضارة الإسلامية بأصلها العربي.

يلاحظ هنا ما يلي:

1. ضعف التركيز على علماء الأعاجم من غير الفرس، أو نسبة بعضهم للفرس دون تثبت، وهذا يشمل بعض علماء العرب.

2. الفرس وحدهم هم الذين رفعوا صوتهم بالتنويه بدورهم، دون بقية علماء الشعوب الأُخرى. ولم يكتفوا بذلك حتى نسبوا إليهم كثيراً من العلماء من غير الفرس: العرب وغير العرب. ولم يكتفوا بذلك حتى سلبوا العرب كل فضيلة، وأنكروا دورهم في صنع أعظم وأنبل حضارة ظهرت في الوجود مصداقاً لقوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ (آل عمران:110). نعم هي أمة الإسلام، لكن العرب أصلها وأساسها وشريك وطابَع بنائها. وما ذلك إلا لأن الفرس يعانون من عقدة جمعية متأصلة فيهم هي أساس كل العقد الاَخرى في تركيبتهم النفسية الجمعية، هي (عقدة النقص inferiority complex). هذه العقدة هي التي تدفعهم لهذا التصرف (الاستعراضي)، وهي التي جعلت الفرس طوال تاريخهم شعباً مخرباً، والواقع شاهد؛ فالتصرف التخريبي لدولة إيران على جميع الصعد هو السبب وراء كل هذا الصداع في المنطقة.

3. إن نسبة كل عالم إلى أصله وقد نشأ في ظل حضارة أُخرى يعبر عن نظرة تفكيكية سطحية قاصرة؛ لأنها تغفل دور الحضارة الراهنة في وجودهم.

4. إن تلك النظرة لا تدرك أن كون الحضارة منسوبة إلى قومية أو ديانة معينة لا يعني خلوها من العناصر الأخرى التي امتزجت بها ففقدت خصائصها الأصلية، أو ضعفت هذه الخصائص بذوبانها أو تأثرها أو خضوعها لعناصر الحضارة الجديدة. وإلا لما صح قط نسبة أي حضارة لأهلها؛ إذ لا توجد حضارة قومية خالصة لم يخالط نقاءها عنصر آخر البتة.

إن العلماء الفرس الذين وجدوا في ظل الحضارة العربية هم نتاج تلك الحضارة التي سادت وانتصرت، وليسوا نتاج الفارسية التي هزمت وتوارت. إن كثيراً من كبار علماء أمريكا وأوربا اليوم من العرب، لكن الحضارة التي يشاركون في بنائها هناك ليست عربية، ولا يمكن أن تسمى كذلك، ولا يصح نسبتهم إلى حضارة مشتق اسمها من قوميتهم أو ديانتهم الأصلية. إنهم نتاج الحضارة الغربية، ولولا احتضان تلك الحضارة لهم لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه من مراتب في سلم العلم والإنجاز الحضاري.

لولا الحضارة العربية ما ظهر مثل سيبويه والفارابي وابن سينا، ولا غيرهم بالطريقة نفسها التي ظهروا فيها وقدموا من خلالها خدماتهم للبشرية. ولا بأس مع هذا أن يظل العالم على المستوى الشخصي يحمل خصائصه العرقية كلاً أو بعضاً؛ ما دام يعبر عن جهده ضمن منظومة حضارية أخرى. كما هو حال الكثيرين من علماء العرب وهم يساهمون في بناء الحضارة – أو المدنية – الغربية اليوم. ولا يغض هذا من حظ الشعوب في مساهمتهم في بناء الحضارة العربية الإسلامية، ولكن بشرط أن يوضع هذا كله ضمن هذا الإطار، وينظر إليه بهذا المنظار.

 

علماء الفرس جهد إيجابي يقابله جهد سلبي

ثمت ملاحظة جوهرية تتعلق بالفرس حصراً هي أن هذا الجهد الإيجابي للفرس كان إلى جانبه جهد سلبي خطير لا يقل عنه أثراً – إن لم يزد عليه – يتمثل في المؤامرات السياسية والعسكرية والثقافية والدينية وغيرها من المناشط الحياتية والاجتماعية في الفترة التي كانت فيها إيران ذات طابع سني ظاهر. ومن شواهدها العلماء والرواة والأدباء والشعراء الذين كتبوا وقعدوا ووضعوا أركان التشيع الفارسي، ومصادره الأصلية، قبل ظهور الصفويين بقرون، مثل الكليني والقمي والطوسي.

حرص الفرس أن تكون مؤامرتهم على الدولة العربية الإسلامية ذات ثلاث شعب رئيسة: الاتجاه العلمي، والاتجاه السياسي، والاتجاه العسكري. وكان أقربها نيلاً، وأسرعها تأثيراً بالمجتمع خصوصاً عوامه، وأسلسها مروراً، وأخفاها مقصداً: العمل بثوب العلماء وطلبة العلم والزهاد والوعاظ والأدباء والمفكرين.

إن هذا يفسر كثرة طلبة العلم من الموالي الذين التفوا حول علماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم. ولمَ كثر علماء الموالي في البيئة العربية. ولم اخترعوا الأكاذيب في تضخيم دور الفرس، ومن ذلك نسبة إمامة أي علم من العلوم إلى الفرس.

لقد كان لعلماء الموالي دور خطير في تشويه الدين واللغة والتاريخ وبقية العلوم، ووضع الأحاديث الخادمة لهذه الأهداف. وقد هالني أثناء تجربتي العلمية حجم الجهد الذي بذله هؤلاء في سبيل ذلك، وأثره في صناعة ثقافة شعوبية طبعت الجمهور السني: علماء وعامة، مهدت وما زالت تمهد للغزو الشيعي واحتلاله الأرض العربية السنية.

إن بعض أولئك العلماء الفرس الذين احتضنهم المجتمع العربي كانوا لا يفترون – عن وعي أو عن دوافع نفسية غير واعية – عن شحن المجتمع بالحقد على حكامه، وإثارتهم ضدهم رغم إحسان حكام العرب إليهم ومنحهم الحرية في أن يقولوا ما يريدون.

 

سنية الفارسي لا تنفي رواسب شعوبيته

كان لعلماء فرس آخرين دورهم في ترسيخ الثقافة الشعوبية لكن بحكم رواسب الشخصية الفارسية، وانعكاسها على فكرهم وسلوكهم داخل المجتمع العربي. والموالي – خصوصاً الفرس – دخلوا في الإسلام وفي نفوسهم جراحات وآلام ونُدب حصلت لهم من زوال دولتهم ومحو دينهم واحتلال ديارهم وقتل رجالهم وسبي نسائهم. هذا مع الطابَع العنجهي والكبريائي للشخصية الفارسية، والتعالي على الأمم لاسيما العرب. وهذه لا تزول آثارها، وإن كان صاحبها صادقاً في أصل تدينه، إلا بعد آماد ومُدد.

إن كون الطابع السني هو الغالب على هؤلاء المفكرين والعلماء وغيرهم من المشاركين في صنع الحضارة الإسلامية شيء طبيعي؛ بسبب أن الحضارة الغالبة هي حضارة سنية بامتياز. لكن السنية لا تنفي رواسب الشعوبية. مثاله مالك بن دينار والحسن البصري – إن صح ما يروى عنهم في كتب الرقائق والأدب وغيرها – من ذم لأمراء زمانهم وتذمرهم منهم ومن الوضع السياسي والاجتماعي العام، مع أن تلك الفترة كانت من أكثر عصور وفترات الأمة ازدهاراً ورخاء وعدلاً وعزاً وعزة وحرية وكرامة. وبشهادة النبي في حديثه المشهور بخيرية القرون الثلاثة الأولى. وقد عاش ابن دينار والبصري في القرن الثاني!

إننا لا نتهم هؤلاء في نيتهم ودينهم، وإنما نقول: إنهم أُتوا من تلك الثغرة بحكم الطبيعة البشرية، التي أغفلها كلياً – لَلأسف! – عامة العلماء الأقدمين. وكأن شخصية الإنسان يبنيها عامل واحد هو الدين، وليست هي حاصل جمع وتفاعل عناصر عديدة منها العرق والبيئة والتربية البيتية وغيرها. ومن عرف محركات الإنسان ودوافعه الذاتية والخارجية وتشابكها وتعقدها، يدرك أن صدق التدين عامل واحد من عوامل المعادلة، يبقى – على أهميته – قاصراً عن إحداث النتيجة الموضوعية المنشودة في كثير من الأحيان والأحوال والمواقف، إلا عند طراز خاص من البشر.

نحن لا نطعن في من دلت سيرته على صدق التدين، ولكن ينبغي أن لا نمنح ما يقوله صك العصمة من الاندفاع غير الواعي وراء دوافع نفسية خفية جمعية. ينبغي أن نضعها في معادلة التقويم عند مواطن الاشتباه.

25/1/2016

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى