نظام التوريث .. مباح أصلاً وتقرر بالشورى شرعاً
د. طه حامد الدليمي
من المقولات الشائعة في الثقافة السائدة الفصل بين الشورى وتوريث الحكم بحيث صار من المسلّم به أن التوريث والشورى ضدان لا يلتقيان. وحيث أن الله تعالى أمر بالشورى فقال: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى:38) فينتج مباشرة أن تعيين يزيد مخالف للشرع لأنه لم يحصل بالشورى الواجبة بين أهل الشأن من الأمة. وكثيراً ما يقال: إن معاوية أول من غيّر نظام الحكم في الإسلام من شورى إلى وراثة. متناسين أن علياً هو أول من فعل ذلك، إذا تجاوزنا النزعة الاعتذارية المسبقة لسيدنا علي مقابل النزعة الاتهامية لسيدنا لمعاوية.
التوريث ثبت بعملية شورى استمرت عشرات السنين
عند التحقيق نجد أن جعل الوراثة بالضد من الشورى إنما هو نتيجة التعجل والفكر التجريدي والنظر الأولي، تحتضنه تربة خصبة من الثقافة السائدة والضخ الإعلامي المكثف على مر التاريخ.
فإنه إذا تشاور (أهل الحل والعقد) فيما بينهم فرأوا:
أ. أن الزمن بملابساته يوجب تولية ابن الخليفة السابق في فترة من الفترات.
ب. أو اجتمعوا فرأوا أن وحدة الأمة واستقرار الدولة، مهدد بعد موت أي خليفة بحدوث الفتنة ووقوع الاقتتال والفرقة.
وتشاوروا فلم يجدوا مخرجاً جذرياً دائمياً من هذا المصير الرعيب الذي بات يتكرر في كل مرة سوى حصر الاستخلاف في أسرة معينة..
فما من شك في أن هذا الرأي هو عين الشورى، والمخالف له هو الخارج عن الشورى الناقض لها الممتنع عنها. وهو الساعي في تفريق الأمة وفتنتها. وداخل تحت طائلة قول النبي : (إنه ستكون هنات وهنات. فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة، وهي جميع، فاضربوه بالسيف “وفي لفظ فاقتلوه” كائناً من كان). وفي رواية ثانية: (من أتاكم، وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه)([1]).
علماً أن (حصر الخلافة في أسرة واحدة) لم يظهر دفعة واحدة، بل على دفعات حسب متطلبات التطور والظروف، تبلور شيئاً فشيئاً، وتطلب ظهوره ثم إقراره كنظام سياسي فترة امتدت قرابة خمسة عقود منذ استخلاف معاوية عام (40 هـ) حتى تولية الوليد بن عبد الملك عام (86 هـ)؛ فإنه أول خليفة في تاريخ الإسلام تولى الحكم طبقاً لنظام التوريث. وما قبله فكلها إرهاصات وعمليات ولادة عسرة لهذا النظام.
إن حصر الشورى الشرعية كلها بالطريقة التي يتم بها اختيار الحاكم، ثم نفيها عن النظام الملكي الوراثي على اعتبار أن الخليفة يعين مسبقاً بالوراثة لا بالتشاور بين أهل الحل والعقد.. هذا تقطيع وابتسار لعملية الشورى. إذ يَفوت أصحاب هذا الرأي، أو يتغافلون عن أمرين مهمين:
1. التوريث ضرورة سياسية لأمر مباح أصلاً وتقرر شرعاً
إن تولية الابن أو القريب بالتعيين أو التوريث لم يكن إلا نتاج تجارب قاسية، وعملية شورى واسعة مورست بين (أهل الحل والعقد)، الذين رأوا أن الزمن ما عاد صالحاً لترك ولاية الأمر بيد عموم الناس تتشاور (بل تتثاور) فيما بينها لانتخاب من تراه أهلاً للخلافة؛ لأن هذا ما عاد ممكناً، والنتيجة الوحيدة لهذا التصرف هو التنازع والتثاور والاقتتال بين المتنافسين على المنصب.
ظهر ذلك واضحاً عندما، افتُلِتَ سيدنا عثمان قبل أن يتمكن من تعيين خلف له. وعندما ترك معاوية الثاني أمر تعيين الخليفة على الحال (النموذجي) الذي في أذهان المخالفين. فقد أدى هذا إلى أن يتثاور المسلمون ويتجالدوا بالسيوف خمس سنين من قبل وعشر سنين من بعد!
إن هذه العملية الواسعة من التشاور تم في نهايتها إقرار هذا النظام، الذي هو حصر الخلافة في أسرة واحدة، يكون اختيار الخليفة بالتوارث فيها. فلا يصح وصف نظام الوراثة بأنه نظام غير شوري بينما هو ابن الشورى وناتج من نواتجها، خرج من صلبها وترعرع في حضنها ودرج في ساحتها. أما تعيين من سيكون الخليفة بعد ذلك فهو جزئية تطبيقية لنظام شرعي شوروي، وتطبيق المشروع مشروع.
النظام الوراثي إذن كلية تم إقرارها بالشورى، واختيار الخليفة جزئية ناتجة عن هذا النظام الكلي. وهذا النظام نتج عن الشورى وبالشورى. فما نتج عنه لا يكون خارجاً عن الشورى؛ وإلا كان الناتج عن الشيء ليس ناتجاً عنه. وذلك تناقض لا يستقيم.
ومن باب أولى يكون تعيين الابن بالشورى داخلاً في الشورى.
2. الشورى تتجاوز آلية اختيار الحاكم إلى إدارته شؤون الدولة أثناء حكمه
إن الشورى المأمور بها شرعاً وعقلاً لا تنحصر في فعل واحد هو طريقة تولية الحاكم، بل تتعداها إلى فترة الحكم الذي أعقب التولية، والتي عادة ما تمتد سنين. وهذا هو المهم في موضوع الشورى ولبه ومقصوده. فإذا كان تصرف الحاكم في هذه الفترة قائماً على العدل والرحمة والعمل بالشريعة في ظلال الشورى لا يمكن التجني على مثل هذا الحكم نعتاً له بالتعسف والظلم وعدم الشورى. إن هذا النعت هو الظلم. ثم ماذا يضير عامة الناس من حكم كهذا لأنه جاء بالتوريث؟ اللهم إلا فئة محدودة هم الطامعون في الحكم، إذ يجدون في هذا النظام حرماناً لهم.
الثقافة السائدة تشغل أنظار الجمهور – فيما يتعلق بالشورى – بأمر واحد هو آلية اختيار الحاكم، وكأن هذا الأصل العظيم الذي أرساه قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى:38) لا شأن له إلا في هذه الجزئية، ثم إذا تجاوزها إلى الطريقة التي يدير بها الحاكم شؤون دولته أصبح هذا الأصل معطلاً! مع أن الشأن الأهم في حياة الحاكم بالنسبة لشعبه هو كيف يدير علاقته به، وليس كيف أتى إلى السلطة. هذا والنبي الذي نزل عليه هذا الأمر إنما طبقه في إدارته لشؤون رعيته ودولته لا في الطريقة التي وصل بها إلى رأس الحكم، فمن المقطوع به أنها كانت بتعيين من الله تعالى، لا شورى من الناس. الناظر اليوم في أحوال الدول الملكية وما شابهها في العالم القريب والبعيد يجدها إن لم تكن أكثر الدول استقراراً ونمواً مقارنة بغيرها، فهي لا تقل عنها بحال.
لماذا ؟
ثمت ملاحظة قد تبدو هامشية، لكنها حين تنظر إليها بمنظار علم النفس أو الاجتماع السياسي قد تكون هي العلة المزمنة والدُّمَّلة الكامنة وراء كل هذا الضجيج الذي يثيره المخالفون ومن شايعهم.
تنفجر هذه الدملة بسؤال يستحق التوقف والنظر: لماذا يركز المخالفون على الشورى المتعلقة بطريقة وصول الحاكم لمنصب الحكم، ولا يأبهون للشورى المتعلقة بالطريقة التي يدير بها الحاكم شؤون الحكم؟ بعبارة أُخرى: لماذا التركيز في موضوع الشورى على الحاكم لا على الناس؟
لا أجد سبباً مقنعاً سوى أن هؤلاء المخالفين لا يهمهم شأن الناس ومصلحتهم أكثر من كيفية الوصول إلى الحكم. ليس شرطاً أن يشعر المخالف بهذا الدافع في صورته الواعية؛ لأن هذا الدافع إنما وليد حالة نفسية جمعية، وهي بطبيعتها تكون مستترة تتخفى في أعماق اللاوعي الجمعي. إن الوراثة تحرم الطامعين من فرصة الوصول إلى الحكم. هنا (مربط الفرس)، يستوي في ذلك الذين يعون هذا السبب أم الذين لا يعون. ولهذا فإن الملاحظ على من يهدمون الأنظمة الوراثية ويستولون على السلطة يكونون – في العادة – أسوأ منهم، إذ يؤسسون لأنظمة قمعية استبدادية يتمنى الناس فيها رجوع الوضع السياسي إلى ما كان عليه مهما كانت طبيعة الحكم السابق.
30/3/2016
___________________________________________________________________________________________
- – رواه مسلم عن عرفجة. ↑