مقالات

الوراثة في الحكم الإسلامي .. دور الثقافة السياسية المعاصرة

د. طه حامد الدليمي

لا أدري متى نبت هذا الفصام النكد بين المُلك والخلافة؟ ومن قال به من السلف أو العلماء الأقدمين؟ أم هو نتاج الثقافة المعاصرة والتأثر بالنظم الغربية التي يأتي فيها الحاكم بالانتخاب المباشر من الشعب؟

لقد توهم المخالفون تأثراً – كما يبدو – بهذه الثقافة أن الشورى تعني الانتخاب لزوماً، وأن الانتخاب أن الانتخاب هو الصورة الوحيدة للشورى.. ثم انحدروا فتوهموا أن التعيين لاسيما إذا جاء بالتوريث يتناقض مع الشورى. واجتمع هذا مع أوهام أخرى مثل جعل الوراثة من خصائص المُلك، والتعلق بأعناق روايات لا تصلح للتأسيس؛ فاكتملت الدائرة، وأُحكِم الطوق!

يقول د. محمد عياش الكبيسي: “لم يعرف التاريخ الإسلامي ولا تاريخ الأنبياء من قبل فكرة التصويت الشعبي الشامل والمباشر ولا فكرة العمل البرلماني الممثل لإرادة الشعب، فالغرب هو الذي اخترع هذه الثقافة بكل آلياتها وفق متطلبات حركته الذاتية المتنامية. الذي ينبغي التحذير منه بهذا الصدد هو خطورة الاستنساخ الثقافي والذي يعبر عن حالة من الإعجاب بالآخر أكثر من تعبيره عن الحاجة الذاتية”.

ويضيف ساخراً: “هكذا صادر معاوية حقَّ الأمة في الشورى، ثم إن الأمة تبعته في هذه الخطيئة حتى بعد وفاته بألف وثلاثمائة سنة! لكن هذه الأمة استيقظت الآن لتكتشف هذه الخطيئة! ثم إن الذين اكتشفوا هذه الحقيقة قد وقعوا بما يشبه التناقض والازدواجية، فهم في الوقت الذي ينتقدون فيه معاوية يمجِّدون عمر بن عبد العزيز (الخليفة الزاهد)، وهو في الحقيقة مُخرَج من مُخرجات هذا النظام الوراثي – مع ما عرف عنه من ورع متميّز – فقد كان عمر ركناً في هذا النظام، حيث كان والياً للوليد بن عبد الملك على المدينة… وهو الذي أقنع الوليد بتولية أخيه سليمان بن عبد الملك… وأخيراً أكمل عمر بن عبد العزيز التزامه بهذا النظام، فعهد بالخلافة من بعده إلى يزيد بن عبد الملك”!

وبعد أن ذكر وصايا بعض الملوك الصالحين – كصلاح الدين ومحمد الفاتح – وهم على فراش الموت لمن استخلفوه من أبنائهم يقول: “ومن الملاحظ أن غالب الوصايا التوريثية كانت ممزوجة بشعور الإنسان القريب من ربه، ففيها الوصية بالعدل والتواضع والاعتبار والاستعداد للآخرة، وكثيراً ما كانت هذه الوصايا بمشورة العلماء والصلحاء.

وهذا يعني أننا أمام معضلة معقدة تتمثل أولاً بأن الخلفاء المورِّثين والمورَّثين لا يشعرون بالذنب حتى وهم على فراش الموت! والأدهى من هذا: القبول العام في الأمة لهذا النظام، وإذا كان هذا النظام بدعة منكرة، فإن الواجب على الأمراء الصالحين أن يغيِّروا هذا المنكر، وواجب على العلماء أن يرفعوا صوتهم، ولا يصح أن نتهم كل هؤلاء والأمة من بعدهم بالتهاون والتواطؤ!

وكل الذين ورد عنهم الإنكار على قلتهم جاء إنكارهم منصباً على توريث بعض الحكام لقلة عدلهم وورعهم، ولذلك لم نر هذا الإنكار مثلاً على تولية محمد الفاتح! والخلاصة أن المسألة أعقد بكثير من المقولات المبسطة التي تدور كلها حول اتهام رجل واحد وهو معاوية بن أبي سفيان، فالأمة كلها متهمة بخلفائها وعلمائها!”([1]).

 

مُلك بلا وراثة

نصص القرآن العظيم على تعيين الله تعالى طالوت ملكاً على بني إسرائيل. ولم يورث طالوت رحمه الله الملك لأحد من أقربائه، (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ) (البقرة:247). وقال تعالى في القصة نفسها: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) (البقرة:251). وظاهر النص أن داود كان هو الملك بعد طالوت. ولم يكن هو من ورثته.

خلافة مع وراثة

عمر بن عبد العزيز يلقبه المخالفون بـ(الخليفة الراشد الخامس أو السادس)، رغم أنه وصل إلى الحكم بالوراثة، وسلمه بالوراثة، ومات ولم يغير هذا النظام!

ولنا أن نسأل هنا: ألم يكن يسع عمر بن عبد العزيز ما وسع معاوية الثاني بن يزيد، فيترك الأمر من بعده (شورى) دون وريث، لو كان هذا من فعل العقلاء؟

وسؤالي هذا إنما هو من باب الإحراج العلمي للخائضين في هذا الموضوع الخطير، وتعوزهم الدقة في النظر، وإجراء مقياس واحد على الجميع دون تمييز أو تطفيف. فهم يضعون في أيديهم عدة مقاييس لقضية الواحدة، ثم ينزلون هذا على هذه، وهذا على هذه بالرأي، فيبحثون عن تعديل لطرف، وتجريم لطرف آخر والقضية واحدة!

إن وحدة المسلمين وجماعتهم لم تكن بهذه البساطة عند ابن عبد العزيز ليترك الأمر فوضى دون حسم كما فعل معاوية بن يزيد فورط الأمة في حرب دامت عشر سنين! إن حسم الأمر خارج نطاق النظام المعمول به، وهو التوريث، غير ممكن في ذلك الظرف، وإلا قاد إلى كارثة لا يعلمها إلا الله، فكان ما كان من شأنه.

جريرة معاوية الثاني التي يمدحها السطحيون

مات معاوية الثاني بن يزيد بعد أربعين يوماً من خلافته وترك الأمر من بعده فوضى يسميها السطحيون (شورى)!

وما فعله معاوية بن يزيد فلا يحمد عليه، ولا هو من حقه؛ إذ كيف يسيب الأمور ويرحل هكذا كالربان الذي يترك السفينة بين الأمواج في وسط المحيط، ويقول لمن على متنها من المسافرين: لا شأن لي بكم اختاروا من ترونه يصلح لقيادتكم. هذا والقادة: الصالح منهم وغير الصالح، كثر ومتنافسون إلى حد الاستعداد لخوض القتال والسفينة تتدهور؟! ولولا ضعف معاوية بن يزيد ما جنح إلى ما جنح إليه من ذلك. وهو ضعف يعاب عليه ويلام ولا كرامة. ولهذا روي أن أمه قالت له بعد خلعه نفسه: “ليتك كنت حيضة”!

كان نتيجة هذه الفوضى أن دخلت الأمة في دهليز حرب أهلية، كان أولها اقتتال أهل الشام أنفسهم فيما بينهم؛ فقد انقسموا فريقين: فريقاً بايع عبد الله بن الزبير وقاتل على ذلك، وفريقاً بايع مروان بن الحكم وقاتل على ذلك. واستمرت الحرب عشر سنين. والخوف من مثل هذا المصير الذي استشرفه معاوية بثاقب نظره وسابق تجربته هو الذي ألجأه إلى تولية يزيد؛ فإنه كان مدركاً ثلاثة أمور:

الأول: أن أبا بكر وعمر وعلياً لم يتركوا الأمر من بعدهم فوضى بلا تعيين.

الثاني: أن عثمان حين فجأه الموت ولم يحسم الأمر تسبب ذلك في وقوع معارك داخل الأمة وفتن واضطرابات قرابة خمس سنين.

والثالث: أن الزمن تغير، وأن الظرف لا يصلح فيه تعيين أحد غير ولده يزيد. وسيأتي بيان لماذا عين يزيد تحديداً.

 

صلاح الدين وغيره من الملوك الراشدين ورَّثوا المُلك لأقاربهم

في تاريخنا حالات مقاربة لحالة عمر بن عبد العزيز مثل صلاح الدين الأيوبي. فقد اتفق العلماء على رشد ملكه، فهو ملك راشد، رغم أنه ورّث الملك لابنه الملك الظاهر. ولم يقدح فيه أحد بسبب ذلك بحيث نفى عنه المدح والرشاد. وكذلك كان عماد الدين زنكي وولده نور الدين.

إذن يجوز أن يُتولى الحكم بالتوريث في نظام الخلافة. ويجوز أن يكون مُلك بلا توريث. فيتحصل لنا أن التوريث ليس من لوازم الملك، ولا من خصائصه. وإنما هو من عوارضه التي تفرضها الظروف المحيطة. وقد تفرض هذه الظروف الشيء نفسه على الخليفة، ولا يخرجه ذلك من وصفه الأنسب له وهو (الخليفة).

 

جواز توريث الملك

إن الحكم في الإسلام يقوم على قواعد وأصول، متى ما أقام الحاكم بناء حكمه على أساسها فالتفاصيل الباقية كشكل الحكم، من شأن الناس واختيارهم. ومن هذه التفاصيل توريث الحكم. فهل ورد في الشرع ما يبيحه أو يمنع منه؟

لم يرد في نصوص الشرع – على عكس ما عند الموروث الثقافي – ما يمنع أو يحرم توارث الحكم. بل ورد فيه ما يؤسس لتشريعه وإباحته. وقد مارسه خيرة البشر وحكموا به، ألا وهم الأنبياء عليهم السلام. فليس بعد قولهم قول، ولا فعلهم فعل. يقول تعالى: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (النمل:16). قال ابن كثير في تفسيره: (المراد بذلك وراثة الملك والنبوة). وقال ابن العربي في (أحكام القرآن): (أَرَادَ بِالْإِرْثِ هَاهُنَا نُزُولَهُ مَنْزِلَتَهُ فِي النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ). وذلك أن داود كان نبياً فلما توفاه الله تعالى ورث الملك من بعده ابنه سليمان. فهذا مُلك، ووراثي، عمل به الأنبياء؛ ولا يمكن أن يطعن في عمل الأنبياء أحد.

إذن ليس من الصواب أن يذم التوريث لذاته. ومن فعل ذلك لا يكون قد غيّر حكم الله من نظام شرعي إلى آخر بدعي أو كفري، كما يقال عن سيدنا معاوية دون تدقيق أو نظر خاضع لتحقيق. فكيف وما فعله هو مقتضى الحكمة في ذلك الظرف!

_______________________________________________________________________________________

  1. – الشورى وقصة التوريث، مقالة بثلاثة أجزاء، موقع مجلة (العرب) القطرية. 8-22 مايو 2012.
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى