دولة الطغيان .. ودولة الإنسان
د. طه حامد الدليمي
أقام الإسلام دين المسلم ودنياه بكل تفاصيلهما من عقائد وعبادات ومعاملات وخلق وسلوك وعلم وبناء داخل النفس وفي الآفاق، فرداً وجماعة.. أقام ذلك كله على (الفطرة).
والفطرة هي كينونة وخامة وطبيعة الإنسان الأصلية التي يشترك فيها الناس جميعاً قبل أن تتغير بفعل المؤثرات. ومنه قيل للعجين قبل أن يتغير بالاختمار: (فطير).
قال تعالى: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) (الروم:30). وقال في الحديث المتفق عليه – واللفظ لمسلم – عن أبي هريرة : (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟). ثم يقول: أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله). قال ابن حجر العسقلاني (في فتح الباري) باختصار: بهيمة جمعاء أي لم يذهب من بدنها شيء، سميت بذلك لاجتماع أعضائها. والجدعاء المقطوعة الأذن. يريد أنها تولد لا جدع فيها وإنما يجدعها أهلها بعد ذلك.
وإذ أن ديننا دين الفطرة، فهو دين الإنسانية، وهو دين الحضارة بمعناها الشمولي، وليس المدنية العرجاء التي تقوم على البنيان المادي لا على البناء الإنساني.
وحتى تحافظ الفطرة الإنسانية على مفعولها وأثرها في المجتمع جاء الخطاب الإلهي: إيماناً (عقيدة) وتشريعاً بما يتوافق مع الفطرة منطلقاً، ويحافظ عليها واقعاً.
ولكن… .
من ينزل الخطاب الإلهي على المجتمع ؟
يبقى الخطاب الإلهي ساكناً بين دفتين حتى يحركه ويتحرك به الإنسان نفسه. وهذه الحركة خاضعة لشيئين: 1. علم الإنسان في عقله 2. وهواه في نفسه. فإذا كان علمه سليماً وهواه منضبطاً، كانت الحركة على منهاج النبوة. وإذا حصل الخلل في أي واحد من البعدين: العلمي والنفسي انحرف الإنسان: فرداً أو دولة عن المنهاج. وعند ذلك يمكن توظيف نص الخطاب الإلهي بما يتوافق وذلك الخلل. الأسوأ ان الخلل لا يمسي ظاهرة سياسية أو اجتماعية فحسب، وإنما يصبح مقدساً تحيط به هالة مكهربة من الخطوط الحمراء بعضها فوق بعض، ما دام ذلك الإنسان المختل في عقله وعلمه، أو نفسه وهواه يستند إلى الشرع فيما يصدر عنه من أحكام وتشريعات وأفكار وتوجيهات. ومن هنا تنبثق دولة (الكهنوت الديني) وحكمها الاستبدادي، أو ما يسمى بـ(الثيوقراطية). أي دولة الاستبداد والطغيان بأعلى ذراه وأجلى صوره، التي يسحق فيها الإنسان باسم الدين والمصلحة.
يكمم فمه وتغل يده وتقيد رجلاه وتنتهك حريته وتداس كرامته، وتُعَوم أخص خصوصياته في بيته وأدواته الخاصة التي أمر الشرع باحترامها وصونها، حتى إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ليس من حقه تسور جدار، أحس أن خلفه جماعةً يشربون الخمر ويعربدون هناك. وليس أمام هذا الإنسان المستباح إلا الاستسلام ما دام أن الذي يجري يجري عليه باسم (الله)، والله جل في علاه بريء منه.
كيف يبرز الخلل ؟
الإنسان الذي يتشكل منه مجتمعنا اليوم – في عمومه – نتاج منحرف: فكرياً ونفسياً لتراكمات وضغوط سلطت عليه عبر قرون من الزمن، غيرت من فطرته الأصلية. فهو في حاجة إلى إعادة بناء حتى يتمكن من قيادة الحياة طبقاً لنتاج الفطرة الربانية.
حين يعرش الظلم وتشتد وطأته لا يجد هذا الإنسان أمامه إلا أحد طريقين: الخروج بالسلاح (الحل العسكري)، أو مطالبة الظالم بحقوقه استناداً إلى قانون الظالم نفسه (الحل السياسي). وحين ينجح هذا الإنسان الذي حرفه الظلم المستديم عن فطرته، بأي طريقة، في الاستيلاء على السلطة، تكون سلطته امتداداً لانحرافه ولا بد؛ وذلك لسببين: 1. انحرافه الذي يحاصره من الداخل 2. وظروفه التي تحاصره من الخارج. ويجد نفسه متورطاً في حالة لا يمكنه الخلاص منها. وبهذا يزيح دولة طغيان ليبني دولة طغيان. فإذا حكم هذا الإنسان المنحرف باسم الدين تمت البلوى، فكانت تلك الدولة مثالاً للطغيان “بأعلى ذراه وأجلى صوره، التي يسحق فيها الإنسان باسم الدين والمصلحة”.
وما الحل ؟
حتى يفسر الإنسان الخطاب الإلهي ويطبقه طبقاً للمراد الإلهي، فيقيم دولة الإسلام بمعناها الإنساني لا الأناني.. نحتاج إلى سلامة الفطرة بشقيها: العقلي بما فيه من علم سليم، والنفسي بما فيه من هوى منضبط بالشرع، كما قال تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (ص:26). فلم يأمره بمحو الهوى، وإنما بتطويعه للحق. وبمثله روي عن النبي : (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)([1]). وإذ انحرفت الفطرة فلا مهرب من أحد خيارين:
1. إعادة بناء هذا الإنسان: فكرياً ونفسياً.
2. أو استبدال جيل آخر به، وهو جيل الشباب، كما فعل الله تعالى ببني إسرائيل في تيههم. وهذا هو الذي نميل إليه في مشروعنا، مع استثمار الصالح من جيل الكبار.
وكلا التوجهين: إعادة بناء جيل الكبار الماضي أو جيل الشباب الراهن، في حاجة إلى جهد كبير ووقت طويل: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) (الأنعام:57). ضمن (مشروع مدني) يبنى فيه الإنسان: فكرياً ونفسياً وخبروياً: (آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر:3). يكون الجهد العسكري والسياسي آخراً لا أولاً في برنامجه.
في خلاف ذلك البناء والإعداد لن يكون لشعار (الإسلام هو الحل) أو لشعار (خلافة على منهاج النبوة) أثر في الواقع يتوافق معه؛ لسبب بسيط هو أن الإنسان الذي يحرك الشعار غير صالح لتحريكه: إما بسبب نقص علمه أو بسبب انحراف نفسه.
كل الحلول التي بنيت على الحل العسكري أو السياسي قفزاً على البعد المدني ستنتهي حتى وإن أقامت دولاً، حتى وإن جملتها بأسماء وشعارات شرعية، ولكن إحدى نهايتين:
1. دولة الفساد والطغيان: في غياب التأسيس والبناء السليم.
2. دولة الصلاح والإنسان: في وجود المشروع البديل، القائم أولاً على بناء الإنسان: فرداً ومؤسسة.
وأنتم بالخيار.
7/4/2016
__________________________________________________________________________________________
- – الحديث حسنه النووي في (الأربعين)، وضعفه كثير من العلماء بسبب نعيم بن حماد ضعيف لكثرة خطئه، وقد اتهمه بعضهم. ↑