بدل أن تفسر لي .. علمني كيف أفعل ذلك بنفسي كيف نقرأ القرآن (1)
د. طه حامد الدليمي
رمضان يطرق أبوابنا بيد تحمل تحمل القرآن ويد تحمل الإيمان، وحضن يُفرد البشائر من الرحمن. فكيف نستقبل هذا الشهر الكريم؟
هذه سلسلة سريعة الحلقات عن كيفية قراءة القرآن الكريم قراءة ربانية يكون القلب فيها مهيأً بوجود تربة الإيمان قبل بذر القرآن (أي القراءة)، وقبل غرس العلم؛ فإن هذا هو الذي ينبت الخشوع في القلب، ويفيض بالعمل الصالح على الآفاق.
التنمية الذاتية للإيمان
يعتمد جمهور الناس: عامةً ونخبة في معرفة دينهم وتزكية أنفسهم على إمام المسجد وخطيبه في أغلب الأحوال، لا سيما يوم الجمعة إذ يؤدون صلاتها ويستمعون إلى خطبتها. وقلما يحظى المصلون بخطيب مِصقع يلامس بكلماته القلوب فتجلُ بذكر الله وتخشع، ويزداد بتلاوة آياته إيمانهم فيربو ويتجدد، وتنشط جوارحهم وأبدانهم للعمل. وإن حصلوا في بعض الأحيان على مثل هذا الخطيب الذي يهز القلوب وينفض ما علق فيها من درن، فإنما هي موعظة ساعة، سرعان ما تدرج في أكفان الحياة ومعاناتها.
وهذا أحد أسباب ضعف الإيمان في المجتمع.
بدل أن تمنحني وردة علمني كيف أغرس شجرتها
إيمان الجمهور إذن يستورد من الخارج بالتلقين والحث، وليس من الداخل بالحوار الفاعل بين الوحي والأفق والنفس. بينما الحكمة تقول: بدل أن تمنحني وردة علمني كيف أغرس شجرتها. وفي طلب المؤمنين الهداية من الله في آخر سورة (الفاتحة): (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6)، وجوابه تعالى لهم في أول سورة (البقرة) قائلاً: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة:2) إشارة إلى أن الهداية لا تمنح من الخارج منحة حتى لو كان المانح هو الله الذي هو على كل شيء قدير! ما لم تصنع من الداخل صناعة قوامها العبد الراجي والكتاب الهادي. الآية تقول: إن أردتم الهداية فاسعوا إليها بأنفسكم عن طريق العمل بما في هذا الكتاب.. إنه هدىً للمتقين العاملين لا لغيرهم.
كيف يمكن أن ينمي المسلم إيمانه ذاتياً، ويرعاه بنفسه، ويزكيه دون الاعتماد بصورة أساسية على حث الآخرين وموعظتهم وتأثيرهم؟
فيما يلي بعض الوسائل التي جربناها فوجدناها نافعة بإذن الله تعالى:
النظر في آيات القرآن
تأمل هذه الجواهر التي يلقيها ابن قيم الجوزية بين أيدينا مستنبطاً إياها من القرآن:
- “المخلوق اذا خفته استوحشت منه وهربت منه, والرب تعالى اذا خفته أنست به وقربت اليه”. مصداقه قوله تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الذاريات:50). مع أن الفرار يكون من الشيء لا إليه.
- لما طلب آدم الخلود في الجنة من جانب الشجرة عوقب بالخروج منها. ولما طلب يوسف الخروج من السجن من جهة صاحب الرؤيا لبث فيه بضع سنين.
- أول منازل القوم: (اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) وأوسطها (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ). وآخرها (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ) (الأحزاب:40-43).
- تالله ما نفعه عند معصيته عز: (اسجدوا)، ولا شرف: (وعلّم آدم..) ولا خصيصة: (لما خلقت بيدي)، ولا فخر: (نفخت فيه من روحي). وإنما انتفع بذل: (ربنا ظلمنا أنفسنا).
من منا من لا يتمنى أن تكون لديه القابلية لأن نستنتج كما استنتج، ويحوز من الجواهر كما حاز؟ كلنا يهفو لذلك. لكن ما يمنع الكثيرين منا تصوره أن ذلك أمر عسير، خاص بطبقة معينة من الخلق. وهذا وهم. بدليل:
1. أن الله تعالى يدعو عباده جميعاً لتدبر كتابه فقال: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (ص:29). وذم المعرضين عن ذلك فقال: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد:24).
2. أن تدبر القرآن أمر يسره الله جل في علاه على رغم من عسّره من العلماء، وتوهمه من العامة، فقال: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)، وكرر ذلك أربع مرات في سورة واحدة هي (القمر:الآيات:40،32،22،17).
وذم من لم يمارس عملية التدبر والاستنتاج والتفكر فقال: (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) (الفرقان:73)، ثم قال بعدها مباشرة: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان:74). فصاحب العقل التقبلي الجامد والفهم التقليدي الراكد لا يكون قائداً لا في بيته ولا مجتمعه. إنما ذلك الرِّبِّي الذي يقرأ كتابه قراءة ربانية تحقق قوله تعالى الذي هو أول كلمة طرقت سمع النبي : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق:1). اقرأ.. ولكن باسم ربك.. وتحسس كلمة (اسم) من حيث لفظها وجرْسها! أولها (همز) هو أول حروف المعاني ولكنه همز وصل يصلك بربك. وآخرها (ميم) تجمع له شفتيك كما تفعل حين تقول (اللهمَّ) فتجمع به كل أسماء الربوبية. ووسطها (سين) تطرد به كل وساوس الشياطين!
معالم القراءة الربانية
إذن كانت القراءة الربانية حاضرة مع القرآن الكريم منذ أول لحظة.. منذ أول لفظة! فما هي معالم هذه القراءة؟ إليكم عناوين هذه المعالم:
1. الافتقار إلى مدد القهار.
2. قراءة تجمع بين العلم والعبادة والقضية.
3. التفكر في أسمائه تعالى وصفاته وأفعاله.
4. الثقة بقدراتك وقدرات الآخرين.
5. اسأل وناقش.
وسنبسط القول في كل معلم من هذه المعالم بالتفصيل تباعاً بإذن الله.
15 شعبان 1437
22/5/2016