أهم دروس الحدث التركي .. البناء المدني لا الاستعجال الثوروي
د. طه حامد الدليمي
كثير من الناس يشخصن الأمور أو يحزبها أو يأخذها مجزأة مفصولة عن سياقها. أما الطريقة التي أتبعها في تناول الأحداث فعادة ما ترصد مسارات الحدث ومآلاته أكثر من تفاصيله وحركاته، التي إن رصدتها فضمن مسارها أو سياقها؛ فحين أقول: إن خبر الانقلاب ساءني، وخبر فشله سرني إنما أقرر ذلك مدفوعاً بما هو أكبر من الشخص والحزب والدولة والقبيلة والفصيل. لا سروري يعني حباً، ولا مساءتي تعني كرهاً.. لشخص أو جهة.
الجسم المدني أولاً
كانت دلالة الحدث على صوابية (المشروع السني) واضحة، من حيث قيامه على (الجسم المدني) أولاً وقبل كل شيء، وأن القفز فوق العمل المجتمعي الذي هو العمود الفقري للجسم المدني، واستعجال الجهد العسكري والسياسي.. خطأ كارثي في أي مشروع للتغيير.
في (مشروعنا) لخصنا أهداف المرحلة الثانية، أي مرحلة العمل المجتمعي وأسميناها (البؤرة الجاذبة)، بأمرين:
1. إعداد القاعدة القائدة.
2. وإيجاد الحاضنة المجتمعية الساندة.
لولا وجود هذين التكوينين المندمجين لما تمكن رئيس الدولة المنقلَب عليه (رجب طيب أردوغان) من احتواء الانقلاب العسكري. وقد تم له ذلك بكلمة قصيرة بثت من خلال هاتف! على إثرها نزلت القواعد المنظمة القائدة تحفها الجماهير المؤيدة الساندة، ساحبة وراءها قطيع العامة الذي يتبع كل ناعق ويخضع لكل متغلب.. لتحبط الانقلاب، ويتغلب الجمهور الأعزل على الجيش المدجج بالسلاح. وهكذا تغلب المدني على العسكري!
الجسم المدني المنتظم بقاعدة مدنية قائدة تشده إلى مركزها، هو الحلقة المفقودة في جميع حركات المقاومة ضد الاستعمار على مدى القرن الماضي، ومنها المقاومة العراقية، وثورات الربيع العربي أخيراً.
في يوم مقتل القذافي في 20/10/2011 كتبت مقالاً بعنوان [جماهير بلا قيادة.. من دروس (الربيع العربي)] جاء فيه تحت عنوان فرعي هو (حراك الربيع العربي.. معضلة فقدان الصلة بين المحرك والمتحرك) تكلمت فيه عن جذور الأزمة في (الربيع الليبي)، ثم أسقطت الكلام على الحالة العراقية وغيرها من الحالات الراهنة في بقية الدول العربية. وقلت: إذا فعلنا ذلك “نجد تشابهاً في أصل الأمر، ألا وهو فقدان القيادة المنطلقة من الجماهير، والملتحمة بها”. وختمت قائلاً: “هذه نقطة جوهرية مفصلية. على أساسها نقول: إننا – في العراق – نحتاج ضرورةً إلى تأهيل قيادات ميدانية واعية، على هوية سنية واضحة، بإمكانيات وكفاءات قادرة على قيادة الجماهير المتحركة منعاً لسرقة الحراك وتفلت الزمام وانحراف السكة”. وهذا قبل انطلاق الحراك العراقي في المنطقة السنية بسنة وشهرين.
اشتقاق الجناح العسكري من داخل الجسم المدني بآلية الانبثاق لا الإلصاق
معضلة تركيا في القوة الفائقة للعسكر، وهيمنتها على الدولة، بحيث متى ما وجد العسكر أي (انحراف) في الحكومة عن الخطوط الحمراء المشتركة الرسم داخلياً وخارجياً تدخل الجيش فقلب السلطة وأرجعها إلى داخل الخطوط المرسومة. وهذا ما كان يعاني منه حزب (العدالة والتنمية) في جميع أدواره ومختلف أسمائه، حتى مجيء رئاسة رجب طيب أوردغان وتوليه السلطة بعد ذلك منذ سنة 2003 إلى اليوم. وقد عمل الرئيس رجب جاهداً على تقليم مخالب العسكر ليتمكن من بناء الدولة مدنياً وصرف الجيش إلى مهمته الأساسية ألا وهي حماية الدولة من الخارج، وليست التدخل في شؤونها من الداخل.
ولو افترضنا أن الجيش كان منبثقاً من داخل المؤسسة المدنية وليس ملصقاً بها إلصاقاً من خارجها، وكانت القوة والقيادة للجسم المدني، والجيش مجرد مؤسسة تنفيذية ما حصل هذا التناشز، وما كادت الدولة تنقلب في ظرف ساعات ويذهب حزب العدالة ورئيسه أدراج الرياح. ولما احتاجت الدولة إلى زج الجمهور المدني في معركة غير متكافئة مع الجيش وكان وارداً جداً أن تمتلئ الشوارع بالجثث والضحايا وإدخال البلاد في فوضى لها أول وليس لها آخر معلوم النهاية. وأن يقف سنة العراق وسوريا وأمثالهم أمام مصير مرعب مجهول!
ولولا وجود الجمهور المدني المنظم لحزب العدالة، وحنكة الرئيس التركي في اقتناص الفكرة والآلية واللحظة المناسبة لتلافي الخطر لذهب الجميع في داهية. وانظروا إلى الخطأ الكبير الذي ارتكبه إخوان مصر يوم رضوا برئاسة مدنية منزوعة القوة فكان ما كان.
آن الأوان للعمل بما يمكن تسميته (تمدين الجيش)، أي جعله جزءاً من التكوين المدني لمشروع الدولة، وليس كياناً خارجاً عنها متحكماً فيها. هذا بالنسبة للحكومات المشابهة لحالة تركيا. أما نحن فآمنا بضرورة التصحيح من الجذور، والبدء بمشروع شمولي أساسه العمل المدني. حتى إذا تم الجسم المدني – بإذن الله – واستوى على سوقه، جاء دور انبثاق الجناح العسكري منه في وقته وموضعه كإحدى لبنات المشروع في هيكل البناء، وليس قبل ذلك، كما تقرر ذلك في (المنهج) كثابت من ثوابت العمل الرباني السديد.
عندها لن تكون مؤسسة الحكم في حالة خوف وترقب من المؤسسة العسكرية، ولن تتعرض الدولة للهزات والانقلابات الكارثية على يد العسكر، لا سيما مع قاعدة (التوازن بين القوى الثلاث: المدنية والسياسية والعسكرية)، التي تمنع من تحول القوة إلى دُولة بين الأقوياء، كما يمنع الاقتصاد الرباني من تحول المال إلى دولة بين الأغنياء. وقد شرحنا ذلك في (مشروعنا ومنهجنا).
17/7/2016