تخطيط الفرس للفوضى الخلاقة ودور معاوية والحسن في تفويت الفرصة عليهم
د. طه حامد الدليمي
قلت في الجزء الأول من المقال: “لا يفهم دور أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما على وجهه ما لم ندرك خريطة المؤامرة وصورتها المعبرة عنها ولو بعناصرها الأساسية”. وكنت قد لخصت قبله بشهر العناصر الأساسية للمؤامرة تحت عنوان (حتى نعرف من هو معاوية ؟ ومن هم الأمويون ؟). ثم فصلت نصفها في الجزء الأول، مركزاً على ثلاثة خطوات:
1. مؤتمر نهاوند وقرار الفرس إدخال ثلة منهم ظاهراً في الإسلام لنخره من الداخل.
2. مقتل الخليفة عمر بن الخطاب: مقتل الحاكم وبقاء الدولة.
3. مقتل الخليفة عثمان بن عفان: تغيير النظام، والانقلاب على الدولة.
وإليكم الآن بقيةَ التفاصيل:
التخطيط للفوضى الخلاقة يبلغ ذروته
4. في هذا الوسط المضطرب كانت أول (فوضى خلاقة) يضرب فيها الكبار بعضهم بعضاً، وكان أول انقلاب في تاريخ الإسلام.. اصطرعت الأمة لأجله خمس سنين، منحت أولئك الانقلابيين فرصة لتجريب محاولة جديدة هي أخطر من تجربة الانقلاب على الدولة في المرة السابقة.
تقوم المحاولة على اغتيال أكبر ثلاثة قادة في الأمة يترأسون الأمصار الثلاثة التي إليها قيادة الأمة في ذلك العهد: علي في الكوفة، ومعاوية في دمشق، وعمرو في مصر. كانت المؤامرة بقيادة شخص فارسي خطير يقطن الكوفة اسمه شيرويه[1] كما ذكرت بعض المصادر. ولو نجحت التجربة لاضطربت الدولة اضطراباً أشد من سابقه، ولربما تمكن الفرس علانية من السيطرة على الدولة. لكن التجربة فشلت نسبياً بعدم تمكن المتآمرين من اغتيال اثنين من قادة الأمة، فأبقى الله تعالى لهم الداهيتين العظيمين: معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص.
عام الجماعة وفوات الفرصة على الفرس وأعوانهم
5. في هذه اللحظة التاريخية ظهر دور سيدنا معاوية بالتعاون مع سيدنا الحسن . كان المتآمرون الحقيقيون يحرضون الحسن من وراء ستار محاولين دفعه إلى مقاتلة معاوية على قاعدة (ضرب الكبار بالكبار)، فلما رأوه متثاقلاً متردداً عن ذلك دبروا له مكيدة فسعوا لقتله بينما كان في المدائن، وضربوه بمِغْوَل في فخذه ونهبوا متاعه وبساطه.
كان سيدنا الحسن معارضاً لأبيه في خلافه مع الصحابة ابتداء من الطريقة التي تمت بها البيعة وما لحقها من أحداث. ولعله تفطن إلى اليد الخفية التي تديرها لاسيما بعد محاولة اغتياله؛ فرأى – وهو السيد الحكيم – أن يفوت الفرصة على الأعداء، وأن يحفظ دماء المسلمين، وأن يعيد الدولة إلى سابق استقرارها قبل إحدى عشرة سنة. ولا شك في أن كفاية معاوية وأهليته وفائقيته لم تكن خافية على الحسن؛ فنزل له عن الإمارة، وبايعه مؤثراً المصلحة العامة على كل شيء.
كان ذلك العمل العظيم والاختيار الحكيم يوم فرَحٍ عم أرجاء الأمة، عادت به إلى سابق عهدها من الجماعة والألفة، في الوقت الذي كان يوماً أسود سيئت له وجوه الفرس وأعوانهم أشد مما ساءهم فشل محاولتهم في القضاء على جميع المبرزين من قادة الأمة في تجربتهم السابقة. لقد أغاظهم السيد الحسن بصنيعه الجميل إلى درجة أنهم وصموه بـ(مذل المؤمنين ومسود وجوههم) أي المجوس؛ فلقب (المؤمنين) ما زال شيعة المجوس يقتصرون به على أنفسهم دون المسلمين. وهذا لا يتفطن له معظم أهل السنة. وأطلقوا عليه ألفاظاً أُخرى لا تقل عنها بشاعة! وصدقت فيه نبوءة رسول الله بقوله الشريف: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ) رواه البخاري.
وتسلم سيدنا معاوية زمام الأمر فأنقذ الأمة من تلك الفترة الحالكة، وأعاد توحيدها، وانطلق برسالتها إلى العالم من جديد. مفوتاً على الفرس الفرصة مدة طويلة دامت تسعة عقود!
المؤامرة مستمرة
أ. استدراج الحسين
6. وإذ أسقط في يد الفرس هذه المرة أيضاً، عادوا يتآمرون، ويثيرون الفتن منتقلين إلى رجل آخر أقرب في تركيبته الشخصية إلى ما يريدون، ألا وهو سيدنا الحسين على القاعدة نفسها (ضرب الكبار بالكبار)، فصاروا يراسلونه من الكوفة بؤرة الفتنة، التي باتت مثابة ومأوى لأخطر تجمع فارسي منذ أيام الفتح الأولى على يد سينا سعد بن أبي وقاص ، وهم المعروفون بـ(حمراء الكوفة)، ويمنونه حتى استدرجوه – للأسف – إلى عمل خالفه فيه جميع الحكماء وأهل الرأي حتى أخوه محمد بن علي! وكانت النتيجة الحتمية مقتله ، ليتخذ المتآمرون من هذه المناسبة وقوداً لاهباً لقلقلة الدولة والوقيعة بين الأمة حتى يومنا هذا. فكانت الثورات العسكرية لا تهدأ ابتداءً بالدجال المختار بن أبي عبيد الثقفي، وعبد الله بن حنظلة، وزيد بن علي وابنه يحيى، وعبد الله بن الحسن بن الحسن وإخوانه وأبنائه، وغيرها، عدا عبد الله بن الزبير والحرب التي قامت بينه وبين عبد الملك بن مروان واستمرت زهاء عشر سنين.
ب. استدراج العباسيين
7. الخليفة العربي والوزير الفارسي: لم يترك الفرس ديدنهم في ضرب الكبار بالكبار للنفوذ من خلالهم إلى مقاصدهم. وكان عملهم يتطور قدماً مع كل تجربة. حتى وجدوا ضالتهم في العباسيين ومعهم العلويون. هنا بات العمل أوضح واليد الفارسية في الأحداث لم تعد خافية. فتحالف الحزب الهاشمي (العلوي والعباسي) مع الحزب الفارسي بقيادة أبي سلمة الخلال وأبي مسلم الخراساني ضد الدولة حتى أسقطوها وهي في عز شبابها مع وجود القادة الكبار وآخرهم هشام بن عبد الملك، وقد وجدوا ضالتهم قبله في عمر بن عبد العزيز الذي فتح لهم الباب على مصراعيه فسمح للخوارج والروافض بالعمل المفتوح قرابة ثلاث سنين تمكنوا فيها من تطوير أدواتهم ووسائلهم والانتقال بالمؤامرة إلى طور عجّل بنهاية الدولة فكانت معركة (الزاب) سنة 132هـ خاتمة المطاف. تلك المعركة التي جاءت بالعباسيين على رأس الدولة متقاسمين السلطة مع الفرس على قاعدة جديدة فرضتها الأحداث وموازين القوى هي (الخليفة العربي والوزير الفارسي). ولم يكن ذلك ليروق للفرس فكانت مؤامرات ووقعات يشيب لهولها الولدان حتى أسقطوا الدولة ثانية بعد خمسة قرون ونيف بالتعاون مع المغول سنة 656هـ/ 1258م.
8. الملاحظ أن الدولة الأموية لم تدم في الشرق سوى تسعين عاماً، بينما دامت في الغرب في الأندلس قُراب ثمانية قرون، في الوقت الذي لم تدم فيه الدولة العباسية أكثر من خمسة قرون. إن المتغير الأكبر في هذه المفارقات هو وجود الفرس في الشرق دون الغرب. وهذا يعود بنا إلى إدراك الجذور الأولى للحدث ومن يحركه ألا وهم الفرس. وقد ابتدأت بهم فقاتلُ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب هو الفارسي فيروز بن يزدجرد. لكنهم صاروا من بعده يخفون دورهم في الأحداث حتى لا يتنبه إليهم.
إن الانقلاب على عثمان، والمجيء بعلي، واستدراج الحسين، ودفع العلويين والعباسيين، وغيرها من الأحداث والحروب.. تعاون على صنعها الثنائي العتيد: الخبث الفارسي والاستغفال العربي.
9. كان للمؤامرة وجه آخر هو الوجه المدني، في دور خفي اضطلع به الموالي من خلال الجهد العلمي الخبيث الذي يسير على مخطط (مؤتمر نهاوند) لنخر الدولة العربية المسلمة من الداخل. ولبسط هذا موضع آخر (قد يأتي لاحقاً شيء منه).
إن هذه الصورة المختصرة للأحداث تلقي ضوءاً ساطعاً على المَهمة العظيمة التي كان يضطلع بها سيدنا معاوية، ودور الأمويين في الحفاظ على نقاء عروبة الدولة، والنأي بها عن التلوث بسموم الفرس. ولماذا جرى تشويه الأمويين وتاريخهم بدءاً بسيدنا معاوية ومن قبله أبيه أبي سفيان، مروراً بجميع عظماء تلك الدولة المجيدة، الذين لم يسلم منهم أحد، حتى سيدنا عثمان بن عفان ، مروراً بعبد الملك بن مروان والحجاج وأمثالهم من فحول العظماء.
مشكلة الثقافة انها تريد أن تفهم السياسة من خلال عزل القرآن والاعتماد على الأحاديث، دون النظر الى طبيعة الأمر الذي هو السياسة. القرآن وطبيعة الأمر هما الأصلان المعتمدان، ثم يأتي الأمر الثالث وهو ما روي من الأحاديث ضمن ضوابطه. ثم يأتي التاريخ من وراء ذلك كله.
هذا هو هو طريق الفهم، إذا وجد شخصاً حراً ذا عقل حر وفكر لا يسمو فوقه شيء، سوى الوحي النازل من سماء الوحي. ولا يأبه لنقيق زعانف الفكر التي هي مجرد عالة على حركة الحياة ومسيرة التاريخ.
15/1/2017
___________________________________________________________________________________________
- – ربما شيرويه هذا هو الذي كان زوجاً لمرجانة أم عبيد الله بن زياد. وكان مقرباً من علي، وصديقاً لزياد بن أبي سفيان الذي طلقها فتزوجها بعده شيرويه (الكامل للمبرد: 2/167). ويقال: إن مرجانة أو مهرجانة من بنات ملوك الفرس (سير أعلام النبلاء:3/545). واسمها مهربانو بنت يزدجرد بن شهريار. وهي أخت شهربانو زوجة الحسين، وشاهيناز أو نازبانو زوجة عبد الله بن عمر، وكهرمانو زوجة محمد بن أبي بكر، كما يقال. أما شيرويه فكان في الجيش الذي على مقدمة يزدجرد قبل فتح السوس (فتوح البلدان/ص362). وكان أخوه سياه قائد الجند. وهو شيرويه بن سهراب آل باوندي الأسواري.
وقال البلاذري: وقال علي بن مُحَمَّد المدائني: تزوج شيرويه الأسواري مرجانة أم عُبَيْد الله بْن زياد فبنى لها قصراً فيه أبواب كثيرة فسمى هزاردر. وقال أَبُو الْحَسَن قَالَ قوم: سمى هزاردر لأن شيرويه اتخذ في قصره ألف باب، وقال بعضهم: نزل ذلك الموضع ألف أسوار في ألف بيت أنزلهم كسرى فقيل هزاردر (فتوح البلدان/ص349). ↑