مقالات

سنابل العمر

د. طه حامد الدليمي

من الفصل ( 29 ) من راوية ( هكذا تكلم جنوبشت )

كفني ينسدل على كتفي، وفي كفي قبضة سنابل، قطفتها من بين شتلات حرمل. وعلى شفتي ابتسامة. وفوق وسادتي يترك الليل حلماً جميلاً إلى جانبه وردة جوري بيضاء ثم يرحل. لكن ليس قبل أن يعدني بحلم آخر.

أمشي على الأرض تحوطني سماء.

شعور لا أملك له دفعاً.

في نفسي راحة، وفي صدري سعة، وفي قلبي عزيمةً.

أما جسدي فتسري فيه روح جديدة. ساكن السماء (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) ينظر إلي من عليائه راضياً عني، هذا ما أرجو، وربما باهى بي ملائكته.

ما أروعه من شعور!

انظر كيف تسلل هذا المشهد الشاعري، فكان ختام سورة اسمها (الشعراء)؟!

– ساكنُ السماء؟

– أجل، ورد هذا الوصف في حديث حسّنه من يعتمد عليهم من ساكني الأرض وعيونهم تتطلع إلى السماء مطلقةً من كل قيد أو ظرف، إنما هي العلو بكل معناه.

– أها! الآن فهمت.

– شكراً لسؤالك، ولكن ثق بأخيك فهو ممن لا يسلك هذا الطريق الوعر إلا على أثر. أسلافنا مروا من هنا ونحن على آثارهم مقتدون.

**

لم أجد هيثم ضمن قائمة المقبولين الملصقة في لوحة الإعلانات! نظرت يميناً وشمالاً.. ها هو في قائمة الاحتياط! انزعجت وسألت واضطُررت إلى الانتظار حتى المساء ريثما يرجع المدير من بغداد… المهم تم القبول.

– بهذا يصبح لدينا ثمانية عشر طالباً من (هناك).

ومد يده فأخرج رزمة أوراق من المِجر وصار يعُد ثم رفع رأسه وأردف:

– هذه أوراق تقديم القبول. هل يمكن أن تتفضل عليّ بملء حقولها بالمعلومات المبينة إزاء كل حقل والتوقيع عليها؛ حتى لا نحتاج إلى مجيء الشيوخ المسؤولين عنهم، لا سيما ونحن في نهاية التوقيت الرسمي للقبول؟

– بكل سرور.

“فعلاً إنها هدية من السماء! كيف لا وأنا أشارك في قبول هذا العدد، وتشهد يميني عليه. الآن عرفت سر التأخير والانتظار”!

وفجأة انقطع تيار الكهرباء! وفتش المدير فلم يعثر على شمعة ولا فانوس. كانت عقارب الساعة تشير إلى العاشرة حين خرجنا إلى السوق أنا وصاحبي أبو ماهر وفي أيدينا الأوراق. كان السوق خالياً ومظلماً. طفنا الأزقة.. عثرنا على دكان صغير فيه بصيص نور، اشترينا شخاطة، رصفت السيارة وعلى ضوء عيدان الثقاب أخذنا نكتب. كنا انتهينا من عدة أوراق حين برق أمامنا ضوء مولد كهربائي قبالة أحد المطاعم شغّله صاحبه تواً. حركنا السيارة باتجاهه حتى إذا غمرَنا ضوء المصابيح توقفنا لنكمل بقية الأوراق.

رحلة في يوم حافل بالحركة لم يبق منه في الذاكرة سوى خيط باهت ضائع في بحر من الغبار يفصل بينك وبينه.. وبينك وبين ذلك العهد برمته. ما نوع الخيط؟ ما لونه؟ ما حقيقته؟ ماذا يحمل بين زغبه؟ وماذا يريد أن يقول؟

لا جواب!

ومثله ومثله آلاف من الأيام. أهكذا يختصر عمر الإنسان؟ وينطوي في أدراج النسيان؟

ولولا صفحات باهتة في دفتر مذكرات كتبتها بسأم بعد ذلك بأيام لربما لن أذكر من ذلك اليوم سوى ظلام يملأ (شارع 17) في مدينة (الرمادي)، وسيارة وقفت عند رصيف فيها اثنان يكتبان على ضوء مولد كهربائي قرب مطعم لما يُغلِقْ بابه في وجوه الزبائن بعد. وربما أكون قد نسيته. بل نسيته حتماً؛ فكم من مثله نسيت من أيام يفاجئني بها دفتري حين أُلِمّ به الحين بعد الحين. فماذا عن الأيام التي لم أكتبها؟

وضحكت.. “أكتبها أَم تكتبني”؟

وراودني سؤال لحوح.. هل هذه اللقطات التي رويتها تقوم لتصوير ساعة من ساعات ذلك اليوم؟ فما شأن باقي الساعات؟ بل الأيام.. والشهور و… السنين!

أين ستذهب؟ هل ستتبخر هكذا وينتهي كل شيء؟

إنها عمري، وعمري هو أنا.. فكيف لي أن أحفظها.. أعيدَ تخليقها وإيجادها بعد أن تكون قد تبددت مع الزمن؟

كيف يمكنني إعادة سكب عمري في قارورة الزمن كلما انسكب منها؟ وكيف أقدر على سبكه من جديد في كيان الحياة كلما هرّأته الحوادث؟ أو قل: كيف أقدر على جمع تلك البذور من بين سوافي الرياح بلا تفريط ببذرة واحدة لأعيد نثرها في مزرعة تُنبت الحبة فيها (سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)؟

وأضع إصبعين من أصابعي على صُدْغي، متكئاً بالثالث عند ذقني.

أليس الزمن شيئاً كالخيال؟ بل هو دونه بكثير. الخيال يمكن أن تقتنصه في زاوية من دماغك لتحتفظ به ولو لبرهة. أما الزمن فكالماء يتسرب من بين أصابعك لا تقدر على منعه مهما حاولت. وإذن؟

وإذن ماذا؟

كيف يمكن أن تَرتكب كل هذه الخسارات دون أن تربح ما يقابلها؟ لم أجد مثل الانصراف إلى ما أنا فيه شيئاً يعوضني عن تلك الخسارات الفادحة، ويجعلني أربح الزمن أضعافاً.

كان هذا هو حدائي، بعد أن تركت صديقي أبا ماهر في بيته بالفلوجة ومضيت إلى أهلي على بعد مئة كيل ونيف.. وأنا أدعو في سري أن لا أُبتلى بانثقاب أحد إطارات السيارة في ذلك الليل، وذلك الطريق الموحش الطويل.

نعم كان ذاك هو حدائي، رغم هاجسي المزعج، طول الطريق!

وحين وصلت البيت الساعة الثالثة بعد منتصف العمر وجدتني دون أن أدري أحمل في كفي قبضة سنابل! عددتها إنها سبع. لا، هذه سبع أُخرى! وما إن انتهيت من عدها حتى رأيت إلى جانبها سبع سنابل أُخرى كأنها تناسلت من سابقتها! وظل المشهد يتكرر، وظلت التشكيلة السباعية تتناسل من بعضها حتى بلغت الأفق وتسللت إلى ما وراءه! وهكذا أرتال لا تنتهي تتبعها أرتال، كلما غاب رتل تبعه رتل!

شعرت كأنني أرى الجنة على بعد خطوتين أمامي، ولو أهويت إليها بيدي لأخذتها! وغرقت في ضحكة كما يضحك طفل غمرته باللعب. وقلت: أحصي عدد ما في سنبلة واحدة من حب. لكنني تراجعت في اللحظة الأخيرة.

“دعها فلعلها مأمورة”.

– مأمورة؟!

“آه لو يعلم العبد ما في إشارات الأقدار من أسرار”!

– إشارات؟ أقدار؟ أسرار؟

“…….”.

– لماذا لا تجيب؟ أكمل أرجوك، عسى أن أدرك حقيقة ما تقول؟

“لعلها من الصنف الآخر”.

– أي صنف تقصد؟

“والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم”.

تسللت إلى حجرة النوم وعلى شفتي ابتسامة نثرتها على وجوه أطفالي السبعة الغارقين في النوم. مددت يديّ إلى الأفق واستللت منه تشكيلة سنابل، أفردتها ووزعت سنابلها عليهم، بعد أن صنعت على عجل من بعض السنابل إكليلاً وضعته على رأس وفاء، ورميت بالبقية بين أحضانها. وفي الصباح وجدت الليل قد ترك لي فوق وسادتي قبل أن يرحل حلماً جميلاً، إلى جانبه وردة جوريٍّ بيضاء.

13/1/2017

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى